خُطَب في صيغة مقالات
يكتب أحدُ الصحافيين، ساكناً و مطمئناً، مقالاً في مديح العشائرية، و المقال المذكور نُشِرَ في جريدة يومية ... و قد جاء المقال مجيء خطبة تَصْلح للإلقاء في سوق عكاظ. و فحوى المقال (الخطبة) يدور حول تمجيد العشائرية، و التبشير بها، و الانقطاع لها، و رفعها إلى مصاف القيم التي يتوجّب على المرء الاعتزاز بها. و لم يَفتْ صاحبنا الاستشهاد بآية قرآنية ورَدََ فيها عبارة «عشيرته الأقربين». و نسيَ الصحافي المأذون أنّ هناك عشرات الآيات القرآنية التي تخاطب الإنسان بإطلاق، و تتوجه إلى البشر كافّة: «يا بني آدم.. »، «يا أيها الإنسان.. ». و على ذات العرى، حاكَ أحدُ «الدكاترة» خطبة أخرى تغزّل فيها بالقيم العشائرية، دون أنْ ينسى التنديد بأجيال «الشيبس و الآيس كريم». و على جاري عادة الكتبة الذين لا يوجد لديهم ما يقولونه، كان لا بدّ من إقحام مصطلحات ملحمية ظافرية في الخطبتيْن، من مثل: «الرجولة و البطولة و النخوة». و الحقّ أنّ القيم هذه جميلة و رائعة، غير أنّها تَصْلح لزمن الزير سالم و عنترة بن شدّاد أكثر مما تَصْلح لعصرنا الحاضر؛ فهذا الأخير يلزمه قِيَمٌ أرقى من «الرجولة» و «النخوة»؛ هذا العصر ربّما يحتاج إلى قيم من مثل التسامح و الحريّة و الفرديّة و حقوق الإنسان، أكثر بكثير مما يحتاج إلى قيم الحرب و الفروسية الغابرة.
و قيم الفروسية هذه، التي يتصّف بها أهل البادية، يردّها ابن خلدون إلى «الطبْع الذي يغلب التطبّع» أو ما يُطْلَق عليه اسم «العادة»؛ ذاك أنّ «الإنسان ابن عوائده و مألوفه، لا ابن طبيعته و مزاجه؛ فإذا اعتاد الإنسان شظف العيش، سواء في المدينة أو البادية، كان إلى الشجاعة و الكرم أقرب. و لئن اعتاد رغد العيش، كان أقرب إلى الجبن و البخل»، و دائماً بحسب ابن خلدون.
مرحلة تاريخية
و هذا الأخير يخبرنا أنّ حركة التاريخ هي حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة، و الانتقال هذا يتم من طريق «الدولة»، و هذه – في أشهر تعريفاتها - هي «الكيان الشرعي الذي يسيطر على قطعة محددة من الأرض، و يحتكر استعمال القوة»، و من نافل القول أنّ العقلية العشائرية لا تقيم كبيرَ وزن لمفهوم الدولة، و تكفي التفاتة سريعة للأدغال المحيطة بنا حتى ندرك أيّ بؤس و أيّ خراب نجمَ عن الأنظمة العشائرية. فإذا عرفنا أنّ الطابع المميز للبدو هو التنقل و الترحال، و إذا اتفقنا أنّ رابطتيّ الدم و النسب هما اللتان تشدان أفراد القبيلة بعضهم إلى بعض، فهمنا كيف كان عسيراً على العقل الرعويّ الاعتراف بالدولة. و الأخيرة يسمّيها ابن خلدون بــ«الوازع» الذي يدفع عدوان الناس بعضهم عن بعض. و غني عن البيان أنّ «الوازع» هذا، أمتن في المدن منه في البادية.
و قصارى الكلام أنّ البداوة مرحلة تاريخية في سياق الاجتماع الإنساني أو «العمران البشري»، بحسب التعبير الخلدوني. هكذا يسعنا القول أنّ الاختلافات القائمة بين الشعوب و الأمم ليست راجعة للعرق أو الجنس؛ بل هي راجعة أولاً و أخيراً إلى شروط الحياة و ظروفها الموضوعية. فالبدو، و من سار مسارهم، و صار مصيرَهم، ليس المقصود منهم عِرْقاً أو جنساً معيناً.
اشتراط و ليس تضايفاً
و لا يقتصر الدور السلبي للعشائرية في إضعاف الدولة، بل ينسحب على الفرد المنتمي للعشيرة؛ فلا نكون مبالغين إذا زعمنا أنّ العلاقة بين الفرد و العشيرة، هي علاقة اشتراط و ليست علاقة تضايف، على ما يحاول البعضُ أنْ يوحي؛ فالعشيرة تقوم من الفرد مقام الشرط، و من دونها لا يغدو الفردُ إنساناً جديراً بالذود عنه؛ فهو يستمدّ «قوّته» من (اسم) قبيلته؛ فلا ينفك الفرد من الأخيرة، و هذه بدورها، ربما تختزله فيها، و تصهره في بوتقتها؛ فتمّحي شخصيته. و عليه، لا يستطيع الفردُ – مثلاً - انتقادَ القبيلة؛ لأنه ليس ذاتاً موصوفة، فهو أقرب إلى «حالة» أو «نمط». و إذا كان «انتقادُ» الفرد قبيلتَه يرقى مرقى «العصيان»؛ فإنّ التمردّ عليها، و «الخروج» على «قوانينها»؛ يوردُ صاحبَه (صاحب التمرّد) موردَ التهلكة؛ فإذا فعل، و «خرج» (ربما على معنى «خوارج»؟) عُدّ مارقاً، و استوجب التبرؤ منه، و التنديد به، و بفعلته: «فهو لا ينتمي إلينا» و «لا يمثّلنا»، فلئن ثاب و أناب و تاب و تاب الله عليه، عاد إلى قبيلته سالماً غانماً؛ لينضوي (مرةً أخرى) تحت جناح القبيلة، و يستلقى «هانئاً» و «سعيداً» في ظل القبيلة الظليل. و أمّا لماذا العلاقة بين الفرد و القبيلة ليست علاقة تضايف؛ فلأن الأخير هو اشتراط أحد الأمرين الآخرَ، و لا يوجد واحدُهما من غير وجود الآخر؛ و هذا ليس حال الفرد و القبيلة (على ما نخمّن و نرجّح، و ليس على ما نقرّرّ و نؤكد).
نظرية القطيع
و غاية القول أنّ مفهوميّ السياسة و القبيلة متناقضان و متنافران تنافرَ القطبين الشماليّ و الجنوبيّ، و لا يستقيمان في منطق، و لا يستويان في ميزان؛ فالسياسة هي إجراءات و طرق و سنن و أعراف تؤدي إلى اتخاذ قرارات لمصلحة الاجتماع البشري، و هي تنشأ –حصراً – في المدينة، فيما القبيلة هي عَوْدٌ على بدء «نظرية القطيع»؛ و أصحاب النظرية هذه، يرَوْنَ إلى المجتمع ككتلة صمّاء عمياء تتحرك بإشارة «كريمة» من الإصبع (الخنصر أو البنصر). و لا نكتشف البارود إذا قلنا أنّ النظرية هذه أمست نهجاً سائراً في «المنطقة»؛ و النهج هذا، نهضت عليه قبائل الحوثي في اليمن لواءً و شراعاً، فيما قامت منه عشائر العراق مقامَ الراية و المثال. و هذا إنجازٌ «رائع»، لا ريب و لا شكّ.
و على كلّ ذلك، أفلا يستحق هذا البلد الذي يحوي خمساً و عشرين جامعة «مفكرين» و «دكاترة» يبشرونه بالحرية و التسامح و الفردية و الديموقراطية، عوضاً عن تبشيره بــ«الرجولة» و «الشهامة» و «الشيح» و «القيصوم» و «الدحنون»؟
هشام غانم
hishamm126@hotmail.com