من حق الشيخ سلمان العوده أن ينتقد أسامة بن لادن وأن يوجه إليه ما يمليه عليه الواجب الشرعي من لوم أو عتاب أو توبيخ لما يراه من تجاوزات، ومن حقه أن يقف من القاعدة موقف المستنكر لكثير من الأعمال التي تنسب إليها أو تنسبها هي إلي نفسها، من قتل عشوائي لا يميز بين مجرم وبريء، ولا بين صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثي ولا بين محارب ومسالم.
إلا أن مثل هذا النقد أو اللوم أو العتاب أو التوبيخ يفقد قدراً كبيراً من قيمته بسبب قصوره عن تقديم تشخيص لظاهرة القاعدة وتفسير لانجذاب عدد لا بأس به من الشباب العربي والمسلم نحوها بعد أن صار أسامة بن لادن زعيماً ملهماً لهم.
يسأل الشيخ سلمان أخاه أسامة بن لادن: من المسؤول عن شباب كثير من المسلمين وعن فتيان مازالوا في مقتبل أعمارهم يعيشون في نشوة الحماس وفي بداية الالتزام ذهبوا في طريق لا يعرفون نهايته وربما ضلت بهم هذه السبل وهذه الطرق؟ وكأني بالشيخ سلمان يحمل أسامة بن لادن وحده المسؤولية عن ذلك، رغم أن من في مقام الشيخ سلمان يعرف بأن ما آلت إليه أحوال أسامة بن لادن إنما هي نتيجة لتفاعلات وتدافعات لم يكن هو صاحب المبادرة فيها ولا حتي الراغب إليها. فهذا الرجل ضيق عليه في مشارق الأرض ومغاربها، وألجئ إلي الهجرة رغماً عنه إلي بلاد الأفغان بعد أن سدت أبواب بلاد العرب في وجهه، وبعد أن كافأه إخوانه السودانيون علي مساهماته في دعم اقتصاد نظامهم الإسلامي منذ أن وصلوا إلي السلطة عام 1989 بطعنه في الظهر استجابة لضغوط إقليمية ودولية، فأخرجوه غير مأسوف عليه بعد أن بلعوا ما استثمر من أموال طائلة في بلادهم، بل كانوا علي استعداد تام لتسليمه لنظام بلاده ليبطش به كيفما شاء لولا أن الساسة هناك أعربوا عن عدم رغبتهم في تحمل عبئه، أو رؤية وجهه.
كانت تلك تجربة مريرة أقنعت بن لادن بأن النظام العربي بأسره لا يمكن الثقة به أو الاطمئنان إليه، سواء رفع شعار القومية أو الإسلام، لأن أمر حكامه ليس بأيديهم بل بأيدي ساسة البيت الأبيض الذين يصدرون الأوامر لكل متربع علي عرش الحكم بأن يقطع أو يصل، ويعطي أو يمنع، ويدني أو يقصي. وكان أسامة بن لادن ممن صدرت الأوامر بقطعه ومنعه وإقصائه رغم جهوده السابقة في دعم جبهة المواجهة مع الشيوعية في أفغانستان، والتي كان الأمريكان يتزعمون فيها القيادة بينما الأمة العربية والإسلامية تبع لهم عن علم أو عن غير علم. لقد وجد أسامة نفسه فجأة محاصراً في خندق المنبوذين مع آلاف من العرب الأفغان الذين رغم تضحياتهم في قتال السوفيات في أفغانستان، ورغم ما منحوه من دعم حينذاك وتسهيلات من قبل أنظمة الحكم في بلدانهم، باتوا ملفوظين، مطاردين، يحال بينهم وبين العودة إلي حياة طبيعية في مجتمعاتهم، ويحاصرون في كل أرض تطؤها أقدامهم، بل ويزج ببعضهم في غياهب السجون، حيث لقي بعضهم حتفه تحت سياط الجلادين. طبعاً لم يكن هؤلاء الشباب بريئين من كل ذنب، بل أعظم ما اقترفته أيدي بعضهم بعد أن وضعت الحرب أوزارها في أفغانستان أنهم انتقدوا الفساد المستشري في بلدانهم، وطالبوا بإصلاح سياسي واقتصادي لوضع حد للظلم والاستبداد. ولا أظنه يغيب عن بال الشيخ سلمان أن كثيراً من الشباب الذين التحقوا فيما بعد بالقاعدة وأصبحوا جنوداً أوفياء في صفوفها إنما تخرجوا من زنازين القهر والتعذيب، ودفعوا إلي اليأس والإحباط من قبل أجهزة أمنية تدير بعض عملياتها زمر لا تخشي الله، بل قد لا تؤمن به أصلاً، تتفنن فيما تستخدمه من ألوان التنكيل بالمشتبه بهم بعيداً عن سلطان القضاء وفي غيبة تامة لسيادة القانون.
محق الشيخ سلمان في القول بأن صورة الإسلام اليوم ليست في أفضل حالاتها، إلا أنه غير محق في تحميل أسامة بن لادن المسؤولية عن ذلك. فالسلفية التي يخشي علي سمعتها الشيخ سلمان لم يشوه صورتها أسامة ولم تكن القاعدة أول من وجه إليها سهاماً، بل إن الأنظمة الظالمة التي تستمد شرعيتها من السلفية هي التي طعنتها في الظهر، كما طعنها في الظهر ناطقون باسم السلفية ما نطقوا إلا خدمة للسلطان الجائر وتحصيلاً لما يخصهم من منافع. ما من شك في أن عمليات التفجير وقتل الأبرياء تسيء للإسلام والمسلمين، إلا أن صورة الإسلام تشوهت قبل نشأة القاعدة بعقود علي أيدي من كانت صورهم تتصدر صفحات الجرائد الغربية منذ السبعينيات وهم يتنقلون من كازينو إلي كازينو ينفقون الملايين علي طاولات الروليت وعلي المومسات في مدن الغرب من لندن إلي لاس فيغاس. إن أكثر من يشوه صورة السلفية والوهابية والإسلام هم الذين يدعون الانتماء إليها جميعاً بينما يصرون علي الارتشاء في صفقات ملياردية لاقتناء أسلحة لا فائدة ترجي منها، ما تلبث أن تصدأ في مخازنها لكي تستبدل بشكل دوري حتي تظل عجلة مصانع الأصدقاء في بريطانيا وأمريكا دائرة، ويزداد الأثرياء في بلاد النفط ثراءً علي ثرائهم. نعم، من حق الشيخ سلمان أن يرفض أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) وأن يعرب عن استنكاره لها لما مثلته من قتل لآلاف من الأبرياء ماتوا في الطائرات أو في البرجين اللذين هويا تباعاً، إلا أن مثل هذا الرفض والاستنكار يفقد أثره إذا لم يرافقه تفسير للحدث، علي الأقل علي شاكلة ما صدر عن كثير من الأمريكيين أنفسهم من محاولة للفهم لماذا يكرهوننا ، ولما صدر عن بعضهم علي الأقل من توجيه أصابع اللوم لمن يتحمل المسؤولية عن سياسة أمريكية استعمارية ظالمة. فالهجوم علي أمريكا عام 2001 كان رد اليائس المحبط علي ظلم قاهر من قوة لا تجد لها رادعاً بعد أن لم يسلم من قهرها أحد في العالم الإسلامي، بل وفيما يعرف بالعالم الثالث بأسره الممتد من آسيا إلي أمريكا اللاتينية.
أما تحميل أسامة بن لادن المسؤولية عن تدمير شعب بأكمله كما يجري في أفغانستان ووضعه في متاهة ومجاعة، وقد فقد البنية التحتية وكل عوامل الحياة والتواصل، أو تدمير شعب آخر كما يجري في العراق ـ أيضاً ـ يعني أكثر من ثلاثة ملايين مشرد بين الأردن وسورية فقط، فضلاً عمن ذهبوا إلي بلاد أخري في الغرب أو في الشرق فهو أبعد ما يكون عن الإنصاف. فأين دور الغزو الأمريكي المدعوم من قبل كثير من الأنظمة العربية والإسلامية لكل من أفغانستان والعراق؟ وأين دور الاحتلال الأمريكي في خلق حالة من الفوضي وفي تأجيج الطائفية والعرقية بين أبناء الشعب الواحد حتي صار القتل علي الهوية؟ وأين دور الأنظمة العربية المجاورة للعراق التي ما كان الغزو الأمريكي وما تبعه من احتلال ليتم ويستمر لولا تواطؤها وتوفيرها كل أنواع الدعم للمعتدين؟ وأين واجب المسلمين في النهوض بفرض الجهاد ضد الغزاة والمستعمرين؟
نعم، ما من شك في أن من حق الشيخ سلمان أن يندد بأعمال القتل العشوائي التي تنسب إلي القاعدة في العراق وفي غيرها، ولكن السكوت عن العوامل التي أدت إلي هذا الهرج والمرج في بلاد الرافدين يفقد رسالة الشيخ سلمان قدراً كبيراً من صدقيتها، فالنظام الطائفي الحاقد الذي اقامه الأمريكان في بغداد استهدف من اليوم الأول البطش بأهل السنة وتحويلهم فعلاً إلي أقلية مستضعفة، كما أن غزو أمريكا للعراق بتواطؤ من بعض دول الجوار فتح الباب علي مصراعيه أمام إيران لتحصد أكبر قدر ممكن من المنافع، بينما حال ضعف العرب وتبعيتهم للأمريكان دون تحصيل أي مكاسب. والأدهي والأمر أن الشباب الذين هبوا لتلبية نداء الواجب ما لبثوا أن وصموا بالإرهاب وأصبحوا يطاردون في كل مكان، في مفارقة صارخة مع ما كان عليه الوضع أيام الغزو السوفياتي لأفغانستان. فبالأمس كان الجهاد واجباً محبباً ومعاناً عليه بكل السبل، أما اليوم فهو إرهاب وعنف يلاحق من يشتبه بنيته القيام به ويعاقب.
ويتساءل الشيخ سلمان: مَن المستفيد من محاولة تحويل بلد ـ كالمغرب العربي أو كالجزائر أو لبنان أو السعودية أو أي بلد آخر ـ إلي بلاد يشيع فيها الخوف ولا يأمن فيها المرء علي نفسه؟ وكان ينبغي عليه أن يسأل أيضاً من المسؤول عن هذه الظاهرة الممتدة والمنتشرة من المشرق إلي المغرب؟ ومن الذي بدأ دورة العنف والعنف المضاد، ابتداءً من تحرك العسكر ضد الديمقراطية في الجزائر وانتهاء باستدراج فئة من البسطاء إلي لبنان بحجة حماية أهل السنة في لبنان في مواجهة حزب الله الشيعي ، حتي إذا ما تغيرت الخطة بأمر من السيد الأمريكي حوصرت المجموعة في مخيم نهر البارد وأبيدت عن بكرة أبيها، بعد أن زج بالجيش اللبناني في حرب بالوكالة دمر أثناءها المخيم بأسره حيث كان في يوم ما يعيش عشرات الآلاف من المنكوبين الفلسطينيين.
يسأل الشيخ سلمان: من هو المسؤول عن تنشيط كثير من أفكار التكفير والتفجير والقتل والتي شاعت داخل الأسرة الواحدة وبموجبها أصبح الابن يُكفّر أباه ـ أحياناً ـ ويُكفّر أخاه، وربما قتل قريبه بدم بارد، وربما تقرّب إلي الله بمثل هذا المعني بدلاً من أن تظلل هذه الأسرة المسلمة روح السكينة والإخاء والإيمان؟
ويسأل: من المسؤول عن شباب تركوا أمهات مكلومات يعانين الألم؟ أو تركوا زوجات محزونات أو تركوا أطفالاً أو صغاراً يطول بهم الانتظار والسؤال أين أبي؟ أين أبي؟
ويسأل: من المسؤول عن ما جري من ملاحقة الحكومات الغربية للعمل الخيري وحرمان الأيتام والفقراء والمحتاجين في إفريقيا وفي غيرها من لقمة العيش ومن المدرسة ومن الكساء ومن غير ذلك؟
كما يسأل: من المسؤول عن اكتظاظ السجون في العديد من البلاد العربية والإسلامية بالشباب، هذا الاكتظاظ الذي أفرز موجة جديدة من التكفير، ومن العنف، ومن القتل، ومن النقمة علي المجتمع؟
إن المسؤول الأول عن كل ذلك يا شيخ سلمان هو أنظمة الحكم الجاثمة علي صدور المسلمين، والتي مكنت أعداء المسلمين من احتلال بلادهم، وأقامت لهم بجوار مقدسات المسلمين قواعد ينطلقون منها ليبطشوا بالمسلمين وليعيثوا في ديارهم فساداً، إن من يستحق اللوم والعتاب والتوبيخ بل والتنديد، أولاً وقبل الكل، هي تلك الأنظمة الفاسدة الظالمة، وما أسامة بن لادن إلا ضحية من ضحاياها، وما القاعدة إلا إفراز من إفرازاتها.
عن القدس العربي