يزحف للنفس التعب، ويهرب الناس لتفاصيل نائية يختبئون بين ضفتيها، وأهرب عادة إلى دفتر عتيق أخبئه في درج قريب،حفر عليه بأرقام ذهبية 1980. انه العام الذي اقتنيت به الدفتر وهو العام الذي كتبت به معظم الأشياء فوق الورق، صفحات الورق صارت صفراء معتقة لكنها تحتشد بأوقات مليئة بالحياة وبالوجوه والأحداث.
وبينما كان الصبح يغسل النوافذ من بقايا النعس شعرت برغبة في الانسحاب من الوقت.. فتحت الدفتر وأحسست شعورا غريبا بالانقياد لسحر اللحظة. عادت بي عجلة الأزمان واستهواني الحلم ..عادة ما يستهوينا الهروب إلى المستحيل لنتخفف قليلاً من ثقل الواقع، فثمة أغراض بسيطة نحتفظ بها تحس بأنفاسها وتأسرك بحميمية عجيبة. انها أشياؤنا الصغيرة التي تحتفظ بسحرها إلى الأبد، وتصبح كلما تراكم العمر، قادرة بشكل عجيب أن تعيد للقلب ومضاته.. فكل صفحة من الدفتر القديم الذي احتفظ به هي قارورة عطر تعبق أسطرها بالفرح والتلقائية وراحة البال، وأشعار وكلمات ومذكرات ونثريات ذابت أصابعي وأنا أطرّزها ، تبهرني التفاصيل العفوية وتضحكني كلما قلـّبتها تكرارا إلى أن تعيد للمزاج رونقه من جديد.
كنت منصهرة مع الأمس حين ألح رنين الهاتف ، فانتقلت من هناك إلى هنا, وخرجت من مخبئي لأطوي الأوراق المعتقة بالذكرى وأواريها مخبأها حتى اشعار آخر.. فلا وقت في الوقت وعلينا أن نركض لتلبية المسؤوليات اليومية..وإذ بالتعب يلقي القبض علينا وشرائط الصباح لا زالت تغزل نورها. ثم تتساءل ما بال الناس يهربون إلى تفاصيلهم الصغيرة وأقاتهم المستحيلة .. انهم ياعزيزي يغرسون بها وحشتهم نحو أوقات راحت وذكريات خلت، فلا أحد يعرف قصة الفجر الآتي لكنهم يأمنون وهم يقلبون أيامهم الفائتة.
تدور أرجوحة الحياة صعودا وهبوطا وأتذكر ذلك الكاتب الذي قال: "اليوم جل الأشياء تقع خلفك: عمرك .. ذكرياتك.. أحلامك.. ولربما غدك أيضاً، أنت مهزوم ومنتصر بغض الطرف عن حجم نصيبك من الدنيا، أنت هنا مجرد عابر طريق، فأطلق ذاتك نحو طفولتك المسروقة في ركاب الغجر، وكن ماتريد!".
لا بد من الاعتراف: هنا في الصدر شيء ناقص، لا تشعر بامتلائه سوى وأنت تبعثر بين يديك أشياءك الصغيرة..أمكنتك الضائعة.. تفاصيلك البعيدة التي تلمّ بها أشياء ذاتك.
(الرأي - رنا شاور)