البحث العلمي في الأردن وعدم مواءمته لخطط التنمية المستدامه .. أين يكمن الخلل؟
د. محمد الخصاونه
21-12-2011 12:35 AM
طيلة سنوات خلت، كان البحث العلمي (ولا يزال) مدفوعاً من حاجة أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات للترقية، وما أن يحصل عضو هيئة التدريس على ترقيته إلى درجة الأستاذيه (في نهاية المطاف) فإنه لا يلبث أن يوقف كل مساعيه البحثيه ويطوي صفحات العمل وكأنه قد نجح في الإقلاع عن التدخين!!! لقد أدى هذا الوضع إلى انحطاط العطاء العلمي وتراجع مستويات عطاء عضو هيئة التدريس من الناحيتين التعليمية والبحثيه... فليس هنالك عمليه تعليميه ناجحه دون أن يواكبها عطاء بحثي مميز يثري عطاء عضو الهيئة التدريسية المعني، وينمي ويجدد مجاله المعرفي.
ومع أن الزخم الإنتاجي لمجمل محصلة عمل أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأردنية هو أفضل مما وجدنا عليه الزخم قبل عشرون عاماً مضت إلا أن المعاناة لا تزال قائمة بشكل أكبر فيما يتعلق بالنوع! كما أن البحث العلمي في الأردن لا يزال يبحث في أمور تقليدية بحته في أوقات شهد فيه العالم طفرات نوعية فيما تم استحداثه من مجالات معرفية لم يكن لها وجود، بل لم تكن لتخطر على قلب بشر فيما مضى. وحتى لو نظرنا إلى المنتج العلمي ذي الجودة العاليه، في حالات قليله، لوجدته وقد تعدته احتياجات السوق في أي مكان من الأماكن وأصبح مجهود الباحث منصباً على أمور أصبحت من الماضي البعيد؛ إلا أنه وللإنصاف فإن هنالك باحثون دائبون على تطوير قدراتهم البحثية وتطويرها من خلال اختيار أماكن مجدية علمياً يقضون فيها إجازاتهم التي استحقوها للتفرغ العلمي، أو من خلال الإطلاع الدائم والقراءة الحثيثة في المجالات العلميه ذات العلاقة، إلا أن العديد من اساتذة الجامعات هنا (ولم أرد تسميتهم بالباحثين) يستغلون إجازات تفرغهم العلمي من أجل مردود مالي أفضل أو تحسين مستوى معيشة، في الوقت الذي استحدث فيه مفهوم إجازة التفرغ العلمي من أجل التجديد (علماً ونشاطاً) وتغيير مكان العمل (تجنباً للمل) وتعريض عضو هيئة التدريس الفاعل لبيئات عمل مختلفة تعينه على تطوير نفسه والرقي بأدائه!!
إن البحث العلمي الهادف، والذي ينقصه حالياً الكثير من التوجيه، يتطلب تظافر الجهود بين مؤسسات وهيئات كثيرة يصعب أن تقتصر على وزارة واحدة أو مؤسسة بعينها، إذ أن البحث العلمي الموجه هو من الركائز الأساسية في رفد جهود الباحثين ووضعها في الإتجاه الصحيح وفي تنمية الوعي العلمي لدى الباحثين وربطها بخطط التنمية التي تضعها الدولة نحو تحقيق اقتصاد يبنى على توفر بؤرة أو بؤرات صناعية تعزز من قبل جهود الباحثين وجامعاتهم. إن توفر بحث علمي هادف من شأنه النهوض نحو تحقيق بيئات صناعيه منتجه وما قصص نجاح الصناعات في دول كانت إلى عهد قريب تصنف على أنها من الدول النامية والتي تحولت فيما بعد إلى اقتصادات صناعيه إلا دليل قاطع على أهميه توجيه البحث العلمي ورفده بالطاقات المنتجه في تلك الدول.
إن صندوق دعم البحث العلمي الرابض تحت مظلة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أسس في الأصل دون وجود أهداف واضحه مع أن النيه الدفينة في فترة تأسيسه كانت تصب في اتجاه تحقيق احتياجات أعضاء الهيئة التريسية في الجامعات من مصادر تمويليه ورفد الصناعه بالناتج البحثي الذي كان يفترض أن يعود عليها بالنفع بعد أن اقتطعت نسب 1% من أرباح الشركات الصناعيه لغايات تمويل هذا الصندوق... إلا أن الصندوق في نهاية المطاف سار في الإتجاه الخاطىء في ظل التوارثات التي هيمنت عليه وانتقاله من سلطة وزير إلى وزير آخر، كل كان له نهجه ونظرته الخاصه نحو الصندوق!! فوزير يريد أن يقتطع الأموال المجمعه ويحولها إلى جامعات ومعاهد ومؤسسات ترزح تحت سلطة أصدقائه، ووزير يغير ويبدل في القوانين لعل عددا من أصدقائه تكون لهم حظوة المشاركة في لجان متكرره وغير معرفة الغايات بغرض تحقيق منافع ماديه تصب في جعبهم، وفي عهد وزير آخر يفتح حساب بنكي في بنك معين لآيواء أموال الصندوق هذه فيه لعل نفراً من الناس يحصل على قرض ميسر لشراء بيت له أو شقه ولعل البنك يكون قد قدم هذه القروض كهبات لقاء الإصرار من قبل الموظف المعني الذي يكون قد حصل للتعامل مع هذا البنك أو ذاك!!
وإن كان الصندوق لم يتم نهبه من قبل هذا الوزير أو ذاك الموظف أو المدير أو الأمين، فقد وجد الصندوق لنفسه أبواباً أخرى للنهاب!!! فكم من شخص ادعى بأنه "باحث" حام حول الصندوق وحاز على كعكه دسمه له من هذه الأموال ومن ثم تبين بأن كل ما قدمه في المقابل كان أقل بكثير من معادلات رياضيه وهندسيه لا تتعدى تلك الموجودة في الكتب الأساسية التي تدرس في مستويات سنه ثالثه أو رابعه بكالوريوس!! وكم من شخص حسبه الآخرون باحثاً مرموقا حصل له من الصندوق على حصه من المال تفوق التصور وتناقلت الخبر عنه الصحف شتى بينما كان هذا الشخص يحيل عطاءآت الشراء الخاصه ببحثه المدعوم إلى شركه يمتلكها هو أو تعود ملكيتها لأصدقائه وأقربائه وأصحابه المقربين!!وكم من "باحث" أضاف أصدقاء ورؤساء له في مقترحه البحثي فقط بقصد تنفيعهم مالياً ودون حاجه مبررة لوجودهم ضمن مشروعه، بل ذهب الموضوع إلى أبعد من ذلك في شمول بعض الباحثين زوجاتهم كجزء من فريقهم البحثي ظناً منهم أن الآخرين مجرد أشخاص أغبياء ولن يكشفوا أمرهم!! وكم من ذئب ضال أو ثعلب ماكر أراد استغلال الوزير الفلاني أو الأمين العلاني لتجيير أكثر من نصف ممتلكات الصندوق لمشاريع تعود بالنفع على فئه ضيقه من معارفه، مصراً على أخذ المال دون أي نوع من الرقابه أو الحساب!! وكم من مرة قام الوزير أو أحد المدراء بإعادة تشكيل اللجان التي تقوم على دراسة مشاريع البحث المقدمه عندما لم تتجاوب له اللجان بالسمع والطاعة في غير مرضاة الله والوطن والقيادة!!! وكم من قيم على أموال الصندوق أراد تحويل الأموال السائبة في نظره إلى مؤسسة أو أخرى ربما تسيء استخدام مثل هذه الأموال دون حسن تخطيط ودون إدراك منه بأن هناك من يخطط لتوريطه بمثل هذه الألاعيب المكشوفة؟؟؟ بل إن الكثير من هذه الأموال خطط لها أن تسلب في وضح النهار لتأسيس معاهد ومراكز بحثيه دون أن توجد الكوادر الصحيحة للتعامل مع تصريف مثل هذه الأموال ولا حتى الكوادر البحثيه المؤهله!!! وكم من وزير أراد تحويل الموجودات الماليه لصندوق دعم البحث العلمي للجامعات الفقيرة أو لصندوق الطالب الفقير (مع أن هذه الجهات المحتاجه بحاجة ماسه لمن يدعمها ولكن ليس على حساب الوقوف اللاإرادي في وجه تطوير نمودج صناعي في البلد) ليدخل إلى سجله بعض الأعمال البطوليه الآنيه!!! وكم من باحث شغل مناصب عليا في الدوله حصل على تمويل لبحثه ولم يقدم أي تقرير سير عمل لمشروع بحثه محتميا بمنصبه الذي يشغله، وآخرون لم يشغلوا أية مناصب ادعوا بأنهم فوق المحاسبه نظراً لأنهم يحملون درجات الدكتوراه بل إنهم اعتبروا أنفسهم خبراء ولا ينبغي محاسبتهم!!! وكم من باحث أراد الإحتيال على صندوق دعم البحث العلمي هذا بأن تقدم بمشاريع كان يقصد من دعمها تنفيذ مشاريع بحثية إبداعيه فيها صبغه من الحداثه، وتبين يقيناً فيما بعد بأن المشاريع المقدمه كانت جزءاً من مشروع رسالة الدكتوراه للباحث تم إنجازها ونشرها وكانت بحكم المنتهيه!!!! وكم!! وكم....
إن الفساد مثار الجدل في المجتمع قد نقل عدواه للفئة التي كان من المفترض أن تكون منارة يستهدى بها ونوراً ساطعاً يستنار به، بحيث أصبح من المقبول بمكان أن يُزوًر عضو هيئة التدريس أبحاثه ويفبركها (أي أنها لا تكون مبنية لا على تحاليل ولا تجارب ولا دراسات)، بل أن يسرقها في بعض من الأحيان، ويجد في المقابل نوعاً من التعاطف تجاهه من قبل الآخرين بحكم "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"!!! ويتغاضى بعضاً من الناس الشرفاء، أو آولئك المدفوعين بوازع ديني، عن حقيقة أنه بتعاطفهم هذا مع من يذنب إنما يقدمون للمتجاوزين خدمة على حساب الصالح العام، وأن الدين والشرع لا يتفقان معهم على موقفهم هذا!!
إن صندوق دعم البحث العلمي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ومثله مؤسسات داعمة أخرى مثل KAFD، و KADDB، لم توجد إلا بنيه صادقة من قبل الجهات التي دعمت إنشاءها ومنها قيادة الدوله مباشرة، ولم تنشأ بهدف السماح لأموالها بالتسرب لغير الغايات النبيله المعلنه، إلا أنه وفي ظل غياب الإدارة الرشيدة والتسيب الإداري السائد وسوء التخطيط، فإن مثل هذه التجاوزات ستستمر وستتلون بألوان جديده في كل مرة على أمل أن لا تنكشف وعلى مبدأ "إضرب ضربتك وامشي"!!!
إن الحل الأمثل هنا يكمن في توجيه جهود البحث العلمي بالإتجاهات الصحيحة المدروسة وليس بطرق استعباطية أصبحت مألوفة للناس، بل يحتاج الموضوع إلى توجه من نوع جديد.... فكما أن هناك مؤسسات ترعى مصالح البحث العلمي وتوجهها في الدول المتقدمه في الإتجاهات الصحيحه، فمثلاً في أميريكا يوجد هناك مؤسسات قائمه على مثل هذه الأمور مثل (National Science Foundation) و (National Academy of Sciences) وغيرها تقوم على إعداد دعوات للباحثين للتقدم بمقترحات بحثيه (Call for Proposals) لحل مشاكل معينه في الصناعه والزراعه والطب والدفاع وغيرها، وكما هو موجود أيضاَ في دول متقدمه أخرى... فإننا نحن في الأردن بحاجه ماسه لوجود هيئه ترعى وتراقب وتوجه وتترجم احتياجات التنميه المستدامه للبلد إلى أرض الواقع. وهنا لا بد من آيجاد ما يمكن تسميته بال "الهيئه الوطنيه لتوجيه البحث العلمي ونقل التكنولوجيا" يوكل أمر تأسيسها إلى شخص لم يكن مألوفاً على الساحه من قبل وليس مغرماً بالوصول للمناصب العليا ولا الأضواء الساطعه بل يكون من بين آولئك الذين همهم الشاغل يكمن في توفير كل الآليات الممكنه والصحيحه لخدمه البلد وربط قطاعي التعليم العالي والصناعي بعضهما ببعض لخلق بيئة صناعات متقدمه خلال فترة خمسة سنوات، وأن يكون من بين الناس الذين إذا دخلوا إلى مستودع من المال لم يفكر في مد يده إلى ما ليس من ممتلكاته، وأن يكون من بين الفئه القليله من الناس الذين لا ينامون الليل من قلقهم على المصلحة العامة، وبحيث يترك لهذا الشخص حرية انتقاء فريقه بالكامل من نائب له إلى مدراء لوحداته وحتى مستوى المراسل دون أي مداخلات أو تدخلات حتى ينجح ويتكلل مثل هذا المشروع بالنجاح المؤزر.
إن من بين مهام الهيئه المقترحه إضافة لما ذكر هو الإشراف على تأسيس مراكز بحثيه في الجامعات الأردنيه يكون الهدف منها تحقيق غايات التميز وتعود بذلك ملكية مثل هذه المراكز للهيئه المقترحه وتكون الهيئه هي من يقرر تعيين مدراء لمثل هذه المراكز ومجالس إدارتها ويطلب من كل جامعة توافق على تأسيس أحد هذه المراكز في رحابها الإسهام بجزء قليل من موازناتها لتغطيه النفقات التشغيليه السنويه وأمور يضمن من خلالها أن تقوم الجامعه المعنية على حفظ وصيانة المنشأه المقامه في رحابها. ويتوقع من هيئه كهذه المبادره إلى تأسيس كليات تميز في الجامعات الأردنيه تهدف إلى متابعة أمور الطالب المتميز في الكليات المعنية بتطوير بؤرات صناعيه من خلال الجامعات الأردنيه، بالإضافه إلى رفد احتياجات الباحثين في الجامعات والذين يتقدمون باقتراحات تسهم بتطوير ورفد خطط التنمية المستدامه للدوله، وكذلك العمل على دراسة احتياجات السوق بشكل مستمر لمساعدة الجامعات الأردنيه على تطوير خططها الدراسيه (بما يلائم احتياجات السوق) وتوجيه جهود البحث العلمي التي نحن بأمس الحاجة لتوجيها؛ وعليه فإننا نكون أيضاً قد وجدنا أسرة تؤوي هذا الصندوق اليتيم بنقل كفالته من تحت مظلة وزارة التعليم العالي لمظلة الهيئة الراعية (الأسرة الجديدة) الممثلة بالهيئة المقترحة!!
لقد طلع نهار جديد علينا وبزغ فجر التغيير الملهم والمدعوم من القياده الجاده التي دعمت التغيير منذ البدايه نحو ما هو أفضل... وهنا فإنه يقع على عاتق كل إنسان شريف العمل على تحقيق المقولة القديمة الجديدة "فلنبن هذا البلد ولنخدم هذه الأمه" وتجسيد شعار "الإنسان أغلى ما نملك"، وهنا فإننا نتوجه لكل من كان سبباً في تدمير البنيه التحتيه للتعليم العالي والبحث العلمي بأن يسارع إلى تسجيل نفسه في لوحة كل الفاسدين والمفسدين، والذين كانوا سبباً في الخراب الذي حل بالمجتمع وأخل بعقول الأجيال، والتي سينتهي أمرها إلى مزابل التاريخ، لعل تسامح القياده يتركهم إلى سبيل حالهم ويعفوا عنهم ويدع لهم بيوتهم (لأن القياده ليس معروفاً عنها غير التسامح وعدم إلقاء من أجرموا بحق الأمه مباشرة في الشارع (كما ينبغي)) التي تملكوها من سرقة مال الشعب الكادح بعد أن يكونوا طواعية قد أعادوا الأموال الأخرى التي طالتها أياديهم بالسرقه وما اقترفته أفعالهم بحق الآخرين الذين كانوا دوماً يستاؤن مما يشاهدون على الساحه من مثل هذه الأفعال الشنيعه، فلربما قمنا يوماً بمسامحتهم ونسيان ما اقترفته أيديهم بعد أن يكونوا قد تابوا إلى ربهم توبة نصوحا وعادوا إلى ضمائرهم مرضين بذلك ربهم وقيادتهم ومن هم من أبناء جلدتهم!!