الآن فقط يمكن القول أن قطار مكافحة الفساد بدأ بالتحرك ، و أن هناك حربا حقيقية على الفساد الحقيقي قد بدأت فعلا ، و أننا يوما ما بعد سنين سنكون قد وضعنا الوطن على الطريق الصحيح في الشفافية و المحاسبة و المكاشفة و تحمل المسؤولية الوظيفية. الأمر لا يتعلق بتوقيف أمين عمان السابق المهندس عمر المعاني في الجويدة لعدة أيام فالمعاني سيمثل بعد انتهاء التحقيق معه أمام القضاء المدني الذي له الصلاحية المطلقة بإدانته أو تبرئته و هي صلاحية علينا جميعا أن نحترمها و نحترم قراراتها و نصبر على طول إجراءاتها و استئنافاتها و تمييزاتها!
الأمر يتعلق بالانتقال من مجرد الحديث عن محاربة الفساد كشعار في السنوات الأخيرة ، مرورا بتطبيق منقوص للشعار خلال الأشهر الأخيرة من خلال إطلاق يد الهيئات التحقيقية مثل هيئة مكافحة الفساد و لجان تحقيق مجلس النواب و الاهتمام بتقارير ديوان المحاسبة ، لنصل اليوم الى إطلاق الحرب الجدية من خلال تحويل القضايا و التحقيقات إلى القضاء المدني للبت فيها و مباشرة التحقيق الحاسم من خلال المدعين العامين!
خلال الأشهر الماضية كنا نسمع جعجعة بلا طحنا عن تحويل هيئة مكافحة الفساد و رئيس الوزراء عدة ملفات إلى الادعاء العام لمباشرة إجراءات التقاضي فيها ، لكننا اليوم بدأنا بلمس الأثر الفعلي لهذا التحويل من خلال مباشرة التحقيق مع العديد من المسؤولين السابقين دفعة واحدة في العديد من الملفات ،و هذا ما يريده المواطن ليشعر أن محاربة الفساد هي نهج عمل و ليست مجرد شعار نحتفل به في اليوم العالمي لمكافحة الفساد و كأننا كنا نحتفل بتراجعنا على مقياس الشفافية الدولية.
الاجتماع الذي ترأسه الملك بحضور كافة السلطات و المؤسسات الرقابية و التحقيقية و القضائية في الدولة قبل أيام أطلق رصاصة الثورة على الفساد ، و الملفات ستبدأ بالتراكم على أجندات المحاكم ، و هذا ليس بسبب كثرة السلب و النهب بل لأن الفساد لا يتوقف عند الاختلاس و الرشوة و التنفع و التربح المادي ، فالفساد الأخطر هو في تجاوز القانون و الاعتداء على الدستور و مخالفة التعليمات و تدمير الهيكل الاداري للادارة المدنية الاردنية التي كانت نموذجا نفاخر به قبل أن يغزوها سرطان المؤسسات المستقلة و قبل أن يقتلها قيادة هذه الأجهزة من قبل رجال القطاع الخاص بنفس عقلية البزنس التي يديرون بها شركاتهم و كأن أموال الحكومة ملكية خاصة يمكن أن نغامر بها في المشاريع الاقتصادية.
كان الله في عون المدعين العامين لكثرة ما سيحققون في الأسابيع و الأشهر و ربما السنوات القادمة ، و كان الله في عونهم على الشيب الذي سيغزو رؤوسهم من كثرة ما سيسمعون من بلاوي أثناء التحقيقات ، و من التعقيدات القانونية الكثيرة التي ستواجههم أثناء التحقيق لاثبات الأدلة و البراهين و ضمان الادانة، فالمشكلة أن مشاريعنا الاستراتيجية الكبيرة التي احترفها الأردن في السنوات الأخيرة هي مشاريع لقضايا فساد، وهي التي كنا نعلن عنها ، نؤمن لها الدعم من أعلى المستويات ، نعقد احتفالا كبيرا ، نطلق حملة إعلامية ضخمة ، نروج للمشروع في كل المحافل المحلية و الوطنية والدولية ، نجند الكتاب و الصحفيين ، نفند كل الانتقادات بالاتهامية و الحسد ، ثم نقف أمام إحدى ثلاث نهايات: إما عدم تنفيذ المشروع من أساسه ، أو الانتهاء منه بفشل ذريع مريع ، أو نوقفه لأن رائحة الفساد قد أبعدت كل الوطنيين عنه!
أعتقد أن السلطة القضائية و بالتعاون مع وزارة العدل و نظرا لكثافة القضايا المتوقعة في الحرب الجدية الفعلية على الفساد و المفسدين ستعلن قريبا في الصحف المحلية حربا على البطالة بإعلان مفاده "مطلوب مدعين عامين" و قد يتغاضى الاعلان المؤهلات التعليمية و الخبرات ويقتصرعلى الصفات التالية " بخاف الله ، بحب البلد ، و إيده نظيفة ".