في باريس, عرفناه عن قرب وبشكل دائم, ناشطا في اللجنة العربية لحقوق الانسان التي كنا نتعاون معها في المنتدى العربي في كل انشطتنا. كان المنصف المرزوقي شخصية حاضرة باستمرار, مسكونا بعدائه لنظام بن علي بجنون كان يثير الفكاهة لدى البعض, لكن الرجل كان يحظى بالاحترام لثقافته, لصدقه في مواقفه السياسية وفي نضاله ضمن المعارضة التونسية ومع جميع المعارضات للانظمة المستبدة.
وبالامس كنت استمع الى خطابه كرئيس للجمهورية التونسية فلم أقرأ فيه الا القليل القليل مما كنا نناضل جميعا لأجله. كان خطابا اقرب الى الانشاء الراقي, الذي يطرح مبادىء نظرية, ومن خلالها يرسل اشارات معينة, من مثل دعوة المعارضة لان "تكون جزءا من الحل" على حد تعبيره, او الكلام عن الحرية للمنقبات والمحجبات والسافرات, او التحذير من ثورة على الثورة تكون اكثر دموية.
غير انه لم يكن للمراقب ان ينتظر من المرزوقي ما يجب ان ينتظر منه, فهو رجل يملك ولا يحكم, وهو رئيس لم يصل الى السدة بشعبيته وانما بشعبية حزب النهضة, الذي اراده واجهة كي يقول انه ديمقراطي يقبل برئيس غير اسلامي, بل وقومي يساري. وهذا ما يفسر الاوراق البيضاء التي وضعتها المعارضة في الصندوق.
في الانتخابات وصل حزب المنصف باصوات النهضة, وبعدها خاطبه مذيع التلفزيون التونسي ب¯ "الرئيس المرتقب" . لكن قبل الوصول الى الجلسة المرتقبة, كانت الصلاحيات كلها قد انتزعت من رئيس الجمهورية واعطيت لرئيس الوزراء, امين عام حزب النهضة.
هنا تعود بي الذاكرة الى التجمع الشعبي الاول الذي عقد في باريس لنصرة الثورة التونسية. حيث دعت اليه الجمعية العربية لحقوق الانسان (والمنصف نائب رئيسها) والمنتدى العربي الذي يرأسه المناضل التونسي الناصري فتحي بلحاج, الذي كان هو من حجز القاعة, فوجئنا اولا بان رئيسة اللجنة قدمت المنصف لرئيسة مجلس الشيوخ البلجيكي بانه المرشح لرئاسة الجمهورية التونسية. غير ان المفاجأة الكبرى كانت بان الندوة الاولى كانت لمعتقلي غوانتانامو, لتليها بعد ساعتين الندوة حول تونس, وعندما سألنا عن السبب اسر الينا بان الجزيرة اشترطت ذلك كي ترسل طاقم النقل المباشر.
لم يعترض الجميع يومها لان عمل اللجنة العربية لحقوق الانسان يشمل جميع المظلومين, ومن بينهم الاسلاميون, ولم نتخلف نحن القوميين واليساريين يوما عن المشاركة في أي نشاط يخصهم, لان المبدأ كان محاربة الاقصاء والظلم الذي تمارسه الانظمة بحق المعارضين, ومحاربة القوة الامريكية الغاشمة التي تشكل رأس هرم الظلم, والائتلاف الصادق مع كل من يعاديها.
غير ان المفاجآت تتالت بعد الثورة وكان اهمها زيارة الامين العام لحزب النهضة للبيت الابيض (قبل الانتخابات) وتصريحه من هناك بان :"الاسلام السياسي المعتدل هو الخيار الاستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الاوسط" ليصبح من ثم رئيسا للوزراء يجمع في يده جميع الصلاحيات ومنها تلك التي تخص رئيس الجمهورية. بعدها باشهر جاءت زيارة راشد الغنوشي الى الايباك في واشنطن وصدر التعهد بالا ينظر الحكم التونسي الى الصهيونية كعدو.
لذلك انتظرنا عبثا ان يذكر المرزوقي في خطابه عبارة واحدة بشأن القضية العربية الاسرائيلية, هو الذي لم يكن يتخلف عن فعالية تخصها طوال سنوات تواجدنا في باريس. وكذلك الحال بالنسبة لكل القضايا العربية الاخرى اللهم الا سلسلة الأدعية التي اختتم بها خطابه.
صحيح انه من حق وواجب الرئيس الجديد ان يركز على الوضع الداخلي, خاصة البطالة والأمن, لكنه لم يؤشر الى أي تصور لكيفية المعالجة وكانه يترك ذلك لسواه, هو القائل في احد مقالاته: "يتحدثون عن البنوك الإسلامية كحلّ لأزمة النظام المصرفي, يا للسخرية ويتناسون أولا أنها جزء هامشي جدا من نفس النظام المجنون, كيف سيوفر الإسلاميون الشغل لملايين العاطلين بين عشية وضحاها?" الا يتناسى هو الان بدوره ان عليه تصور الحل البديل?
ولكن, الم يكن من حق وواجب الرئيس ان يعرج على السياسة الخارجية للدولة بأكثر من عبارة لاتعني شيئا: "العلاقات الطيبة مع الشمال والجنوب والشرق والغرب"? فهل منع عنه هذا الحق ام انه هو الذي تجنبه تفاديا للاحراج?
جميل بالنسبة لكل المناضلين العرب ان يصل احدهم الى موقع قرار, ولكن كم هو محبط لهم ان يكون قد وصل مجرد واجهة والقرار في يد غيره!0
(العرب اليوم)