لأنه الأكثر صدقا والاشد معرفة وإحاطة باحوال شعبه، فقد عبر جلالة الملك في لقائه مع رؤساء السلطات وممثلي المجتمع المدني عما يجول في ذهن كل مواطن من "تعب " من تكرار الشعارات دون تنفيذ وغياب العدالة عن بعض الإجراءات والممارسات والحديث عن الفساد بينما الملفات الكبرى ما تزال حبيسة الأدراج.
كما قدم الملك تفسيرا واقعيا وتشخيصا امينا لغياب الانتماء وتراجع هيبة الدولة وانعدام الثقة في المؤسسات الوطنية، فهذا لا يعود إلى رغبة المواطن في التمرد على القوانين ولا إلى نزعة متأصلة في الانتقاص من هيبة الدولة. إنه يرجع فقط إلى غياب العدالة وانتفاء المساواة.
إن أي إجراء حكومي أو قرار إداري يشي بالمحاباة والإنحياز يؤسس - من حيث يقصد من يقف وراءه أو لايقصد- إلى مراكمة اليأس والإحباط في نفوس الناس وتشجيعهم على خرق القوانين ومحاولة انتزاع حقوقهم بأيديهم وبالطريقة التي يرونها مناسبة. والنتيجة هي ما نشهده هنا وهناك من تعبيرات غاضبة واحتجاجات صاخبة ضاعت معها هيبة الدولة وتراجع بسببها احترام القوانين والمؤسسات.
المعادلة ليست صعبة ولا معقدة وقد لخصها الملك أحسن تلخيص: إحرص على العدالة وإبتعد عن المحاباة تسترد هيبة الدولة وتحصن القوانين ضد كل التجاوزات التي تمارس عليها والأفعال التي تنطوي على استخفاف بها، فالخروج على القاتون يقدم الحجة والذريعة للآخرين للاستهانة بمؤسسات الدولة والانتقاص من هيبتها ومكانتها بين الناس.
وقد شهدنا ذلك الوضع في أقسى صوره وأشدها إيلاما عندما تم استرضاء الناس بإنشاء بلديات جديدة لهم في عهد الحكومة الماضية حتى تكاثرت البلديات كالفطر خلال أيام، ولو استمر الوضع على ما هو عليه لحصل كل خمسة مواطنين ربما على بلدية خاصة بهم!
والسبب هو أن بعض المسؤولين سمحوا لأنفسهم ربما بدافع الاسترضاء وكسب الشعبية بتجاوز القانون في حالات قليلة في بداية الأمر، ولكن لم تمض أيام حتى خرج الوضع كله عن السيطرة واصبحت الأجهزة الرسمية عاجزة عن ضبط الأمور ومعالجة الموقف، ولو التزم القائمون على الأمر بنصوص القانون منذ البداية لما وصلت الأمور إلى وصلت إليه من خطر على المجتمع وتهديد للسلم في مختلف المحافظات.
أما التوجيه الملكي الآخر الذي لا يقل أهمية فهو الذي جاء في معرض الإشارة إلى تلك الممارسة العجيبة التي استمرأها بعض صانعي القرار والتي تقوم على الاستعاضة عن الأفعال والإنجازات بالشعارات والتصريحات، فقد غدا الحديث عن تطوير المؤسسات وإطلاق الإصلاحات ومكافحة الفساد بديلا عن الأفعال والحقائق الماثلة على الأرض، وما يهم المواطن في نهاية الأمر هو الأفعال وليس الأقوال، ومشكلتنا أننا نتحدث كثيرا ولا ننجز قدر ما نعد، وعلنا نستبدل الأمر فنقتر في الكلام ونكثر من الأفعال.
لقد عبر الملك خير تعبير عما يجول في ذهن كل أردني: لقد تعب الناس من ترديد الشعارات والوعود ، فقد إنقضى عام كامل تقريبا ونحن نعلن صباح مساء عن نوايانا الطيبة إزاء هذا الشأن او ذاك من شؤون الإصلاح ولم ينجز على صعيد الواقع إلإما أمر الملك بإنجازه. وكان بإستطاعتنا أن نحقق أكثر من ذلك بكثير لو اننا إستعضنا عن الأقوال بالأفعال.
لقد تعب المواطن ومل من سماع الحديث المكرور المعاد عن الإصلاح والتطوير ومكافحة الفساد دون أن يقترن هذا الحديث بأفعال وإنجازات على الأرض يراها الناس ويلمسوا آثارها . وإذا مارادت المؤسسات ان تعزز مصداقيتها لدى الناس فعليها أن تكثر من الأفعال وتقلل من التصريحات وإعلانات النوايا.
وإذا جاز لي ان اقدم إقتراحا عمليا في هذا الصدد فإني أقول لاصحاب الحل والربط : توقفوا عن كل تصريحات " النوايا " التي تعلن عن التوجه للقيام بهذا الأمراو ذاك ، وأجلوا الحديث إلى مابعد الإنجاز . فلايقل وزير او مسؤول انه ينوي أن يعبد طريقا في هذه المحافظة أو تلك اوأنه سيقدم تشريعا حول هذا الموضوع او ذاك أو انه سيبرم إتفاقية مع دولة أو منظومة معينة ( مثل إنضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي ) ، وعليه ان يؤجل ذلك كله إلى مابعد الإنجاز وتمام الفعل فيقول أن طريقا إفتتح أو تشريعا أنجز وأن إتفاقية أبرمت بالفعل مع هذه الدولة أو المنظومة. ولابأس من أن يصدر رئيس الوزراء تعميما يحصر فيه حديث المسؤولين في صيغة الماضي فقط مع حظر استعمال (س) وسوف المضافتين إلى الفعل المضارع للدلالة على المستقبل في كل التصريحات الحكومية ، فالفعل الماضي لغة هو الفعل الذي يدل على حدث وقع وأنجز قبل زمن التكلم . وهذا مانحتاجه فقد مللنا من إعلانات النوايا التي لاتتبعها أفعال وإنجازات .
لقد قام جلالة الملك بتذكير جميع أصحاب الحل والعقد في المجتمع بمسؤولياتهم وحدد لهم طريق النهوض بالوطن والخلاص من الواقع الراهن المتأزم . فهل ثمة من يصغى لهذه النصائح الملكية القيمة ؟ نأمل ذلك لأن الوطن لايحتمل المزيد من هذا الإسترخاء المقلق ممن أنيطت بهم ناصية الأمور .