ينخرط الإسلاميون الأتراك, بنشاط, في التحولات الجارية في العالم العربي, انطلاقا من كونهم يقدمون نموذجا ليبراليا للإسلام السياسي المعاصر. وهم يمثّلون, داخل تركيا, هذا النموذج بالفعل, من حيث أنهم يشكّلون حزبا سياسيا للبرجوازية التركية يتسم بالليبرالية الإقتصادية والسياسية والثقافية.
كل قوى الإسلام السياسي تتبع الليبرالية الرأسمالية في الإقتصاد وتقترح, فقط, ميزتين هما النزاهة ومداواة جراح الإفقار بالإحسان. وهي لا تختلف في ذلك عن الليبرالية الرأسمالية المسيحية. الخاص في تجربة إسلاميي تركيا هو تمسكهم بالليبرالية السياسية ( الحريات و التعددية وتداول السلطة بالإنتخابات) والليبرالية الثقافية ( الحرية الفردية والنسبية الأخلاقية بما في ذلك حرية السلوك واللباس والطعام والشراب والفن ونمط الحياة الخ ).
بالمقابل, نرى أن موجة الإسلام السياسي المكتسحة في العالم العربي تتجه نحو سلفية أصولية متشددة. في تونس التي قدّم فيها حزب النهضة الإسلامي نفسه بوصفه نظيرا للنموذج التركي, أفلتت كوادر الحزب وجمهوره منه, إلى جناح المتشددين و"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وتحول أعضاؤه إلى قوة لكسر اعتصام العاطلين عن العمل في العاصمة. ويتخوف التوانسة اليوم من ولادة دكتاتورية جديدة. في ليبيا وسورية, نكاد لا نرى الفارق بين الإخوان والسلفيين والقاعدة, وفي مصر, تشتد المنافسة بين الإخوان والسلفيين. وهي منافسة محسومة في النهاية لصالح السلفيين, ذلك أن الموجة العلمانية تبرز الإخوان, بينما موجة التشدد الديني تتجه لصالح المتشددين.
لا نعدم, بالطبع, مثقفين إسلاميين يرنون إلى النموذج التركي. لكن, على المستوى الاجتماعي السياسي, لا يوجد, عند العرب, إسلام سياسي يمكنه أن يناظر شقيقه التركي. لماذا?
أولا, تبلور الإسلام السياسي التركي تحت ضغط دولة قومية علمانية قوية, يضمنها واحد من أقوى جيوش العالم. وكان مضطرا ليس فقط لتعديل أفكاره ليبراليا للتعايش مع هذه الدولة, بل لتقديم منظور استراتيجي لخدمة المصالح القومية التركية كشرط مسبق لتشكله كحزب حاكم. بالمقابل, ليس لدى العرب دولة قومية ولا علمانية ولا قوية ( الدولة الأمنية ليست قوية), ولا مصالح موحدة, بل متشققة ومتضاربة.
ثانيا, بالمقابل, الإسلام السياسي العربي هو حركة احتجاج الهوامش والمدن المريّفة في التعبير عن المخاوف الفلاحية إزاء المدينة الكوزموبولوتية في دول منهارة دفاعيا وسياسيا واقتصاديا. ولذلك, فقد سلك طريقا محافظا من جهة وعاجز عن التوصل إلى منظور وطني اجتماعي تنموي من جهة أخرى.
ثالثا, بينما طوّر الإسلاميون الأتراك أفكارهم وتجربتهم في إطار قومي حر من الضغوط, ارتبطت تجارب الإسلاميين العرب بالمركز الخليجي الذي منحهم الحماية والتمويل واستخدمهم في أغراضه السياسية ليس فقط في مواجهة الدول العربية ذات النزوع القومي التقدمي, بل ضد الإسلام التاريخي الحضاري لبلاد الشام والعراق ومصر والمغرب. وهذا هو الأخطر. فرؤية الإسلام السياسي العربي تخلت عن تجارب شعوبها المدنية واقتربت بل وتطابقت مع رؤية الإسلام الجزيري والخليجي الذي يتسم بالمحافظة الشديدة من جهة وغياب مفهوم التحرر الوطني من جهة ثانية وغياب المفهوم التنموي من جهة ثالثة.
رابعا, بحكم تركيبتهم الاجتماعية ورؤاهم الفكرية وارتباطاتهم السياسية مع الخليج, أعطى الإسلاميون العرب, الأولوية للصراع الداخلي ضد الحركتين القومية والشيوعية, على الصراع الخارجي. وطوال العقود الممتدة من الخمسينيات إلى التسعينيات, وقف الإسلاميون العرب, على طول الخط, في المعسكر الغربي ¯ الخليجي, ثم حدث انفصال مؤقت مع الولايات المتحدة التي وجدت أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لم يعد هنالك ما يضطرها الى الإحتفاظ بحلفائها الإسلاميين, ثم عادت إدارة أوباما إلى اكتشاف أهمية هؤلاء الحلفاء بسبب تعثر مشروعها في الشرق الأوسط وبروز قوى إقليمية ودولية جديدة.
لكن الإسلام السياسي التركي خارج بلاده, أي في دوره الإقليمي, لا يتسم بالإعتدال, بل يتحالف مع الإسلام السياسي الخليجي الذي يرفض قطعيا الليبراليتين السياسية والثقافية. هذا التحالف له رابط مذهبي (سني) ورابط إقليمي (مواجهة التحدي الإيراني) ورابط دولي (التحالف مع الولايات المتحدة).
إسلاميو تركيا الذاهبون إلى حرب شعواء على سورية تحت شعار " حماية المدنيين" من البطش, يطاردون ويقتلون وينكّلون بالمدنيين من أكراد تركيا, بلا حسيب ولا رقيب, بينما يقدمون الأموال والأسلحة والدعم السياسي للمجموعات الإرهابية العاملة في سورية, وكأن في ذلك رسالة ديمقراطية وإنسانية وإسلامية مبدأية, بينما لا يزيد الأمر عن تنفيذ مخطط عدواني للتمدد في سورية تحت راية حلف النيتو.0
ynoon1@yahoo.com
(العرب اليوم)