عودة الروح إلى "الكتبخانة" المصرية
17-09-2007 03:00 AM
عادت الحياة من جديد إلى مبنى "دار الكتب المصرية" أو ما يعرف بـ"الكتبخانة" بوسط القاهرة، بعد عملية تطوير تكلفت 85 مليون جنيه مصري.
وتتاح مقتنيات الدار للباحثين والمترددين في صورتين: إحداهما ورقية والأخرى إلكترونية، بحيث يمكن للزائر الإطلاع على عروض الدار بالطريقة التي تناسبه.من جديد.. عادت الحياة إلى مبنى "دار الكُـتب المصرية" أو ما يُـعرف بـ"الكتبخانة"، بوسط القاهرة، بعد عملية تطوير استمرت ست سنوات لهذا المبنى العريق، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1870، ويعد أول مكتبة وطنية في العالم العربي، تأسّـست على غرار المكتبة الوطنية في باريس، تحقيقًا لحلم الخديوي إسماعيل بأن تصبح القاهرة "باريس الشرق".
وكان الغرض من تأسيس المكتبة آنذاك "تجميع المخطوطات النفيسة، مما حبسه السلاطين والأمراء والعلماء والمؤلفون على المساجد والأضرحة ومعاهد العلم"، إذ لم يكن هناك وعي تام بأهمية الكتب التي تمتلكها مصر، والتي تتوزع في المساجد الجامعة وقصور الأمراء والأثرياء وبيوت العلماء.
ثـروة فـكرية
في ظل غياب دار قومية للكُـتب تحوي نفائس التراث والمخطوطات المهمة، كان متاحًا للتجار الأجانب الذين يتردّدون على القاهرة أن يشترونها لصالح مكتباتهم الوطنية، مما أدّى إلى تسرّب الكثير منها، وهو الأمر الذي كاد يشكل خطرًا بضياع ثروة مصر الفكرية، انتبه إليه علي مبارك باشا، والذي آمن بضرورة قيام مكتبة كبيرة تضم شتات الكتب المبعثرة في أماكن متعددة، صونًـا لها من الضياع وحماية لها من التبديد، وكان قد شهِـد المكتبة الوطنية في باريس وأعجب بفكرتها.
وألقى علي مبارك برغبته إلى الخديوي، الذي كانت تجيش في نفسه تلك الرغبة، فتلاقت الرغبتان، ليصدر الخديوي قرارًا بإنشاء دار تجمع المخطوطات النفيسة، التي سلمت من الضياع والتبديد، وهكذا كانت البداية عام 1870، بعدما خصص الخديوي أكبر القصور مكانًـا لها.
وقد اتخذت من الطابق الأرضي بسرايا الأمير مصطفى فاضل، شقيق الخديوي إسماعيل، بمنطقة درب الجماميز مقرًا لها في بادئ الأمر، وبلغت الكتب المخطوطة والمطبوعة، التي وسعها المكان عند الافتتاح، نحو 30 ألفًا، كان أهمها الكتب والمخطوطات، التي جمعت من المكتبة الخديويـة القديمة، والتي يعتقد أنها مستودع الكتب الذي أنشأه محمد علي باشا لتُـباع فيه مطبوعات مطبعة بولاق.
كما ضمت أيضًا المكتبات الخاصة بكبار علماء ذلك العصر ومثقفيه، مثل عمر مكرم والأمير مصطفى فاضل، شقيق الخديوي إسماعيل وآخرين.
أما باقي المجلّـدات، فجُـمعت من مكتبتي وزارتي الأشغال والمعارف العمومية، كما أضيفت إليها مؤلفات متنوعة كانت لدى الحكومة، وكذلك النماذج والرسومات والتصميمات ومختلف الآلات الهندسية وغيرها من الأجهزة العلمية الواردة إليها من ديـوان الأشغــال العمومية.
وقد جاءت أول مجموعة كتب أجنبية إلى الكتبخانة المصرية سنة 1873 من جمعية المصريات، التي تأسست في القاهرة على يد بعض العلماء الأجانب.
مسيرة الدار
لكن المساحة المحدّدة لدار الكُـتب في ذلك القصر ضاقت بمحتوياتها، بعد أن بدأت الدار منذ عام 1886 تحتفظ بنُـسخ من كل كتاب أو ما أصبح يُـعرف بالإيداع القانوني، واتجهت الأنظار إلى تأسيس بناية مستقلة لدار الكتاب "الكتبخانة" في ميدان باب الخلق بوسط القاهرة، وخصص طابقه الأرضي لدار الآثار العربية، والطابق الأول وما فوقه للكتبخانة الخديوية، وانتقلت إليه الدار عام 1903، وفتح المبنى للمتردّدين عليه في بداية عام 1904.
وقد مثلت أوائل عام 1926 البداية الحقيقية لتقديم الخدمات المكتبية للأطفال، إذ أنشِـئ بالدار قسم سُـمي "مكتبة التلميذ" لفائدة طلبة المدارس الابتدائية أو ما يُـماثلها، حيث كانت الخدمة من قَـبل قاصرة على البالغين سن الرُّشد وطلبة المدارس العليا فقط.
ومع مرور الأيام والسنين، بدأت الدار تضِـيق بمحتوياتها من المخطوطات والكتب، وأصبح المبنى غيرُ قادر على استيعاب المجموعات والموظفين والرواد. وطلبت وزارة المعارف، التي كانت تتولى آنذاك إدارة الدار، من وزارة المالية تدبير أمر إنشاء دار جديدة.
ووقع الاختيار على مكان إقامة الدار الجديدة، وأقرت وزارة المعارف والجهات المختصـة، التصميمات في 21 مايو 1938، ورسمت الخريطة على أساس أن يبدأ العمل في البناء عام 1939، لكن نشوب الحرب العالمية الثانية أعاق بدء البناء لفترة استمرت حتى مطلع الستينيات.
وفي 23 يوليو سنة 1961، وضـع حجر الأساس لمبنى الدار الحالي على كورنيش النيل في منطقة رملة بولاق، وبدأ الانتقال إليه في عام 1973، وتم افتتاحه رسميًا سنة 1977، وظل مبنى الدار بباب الخلق، الذي يقع على مساحة أربعة آلاف متر مربع منذ ذلك التاريخ مهملاً إلى أن بدأت الحكومة المصرية تطويره منذ ست سنوات، ليُـعاد افتتاحه في أواخر فبراير 2007 في احتفال رسمي، حضره الرئيس محمد حسني مبارك وكبار رجال الدولة.
وفي إطار مشروع التطوير، تم تحديث قاعات الإطلاع والمخطوطات والوثائق عن طريق استخدام الوسائل التقنية الحديثة في بناء قواعد بيانات آلية، يتعرف من خلالها المتردّدون على الدار على رصيدها الزاخر من المخطوطات والوثائق.
محتويات الدار
تبلغ مخطوطات دار الكتب ما يربُـو على 57 ألف مخطوط، تُـعد من أنفَـس المجموعات على مستوى العالم قاطبة، بتنوّع موضوعاتها وخطوطها المنسوبة ومخطوطاتها المؤرخة.
وتضم دار الكتب أندَر المصاحف والمخطوطات التراثية والبرديات والمسكوكات والمطبوعات الأولى، التي صدرت في القرن التاسع عشر، وتحفًـا نادرة، أبرزها نموذج مصغّـر لقبّـة الصخرة، التي أمر ببنائها الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان، وهذا النموذج مرصّـع بالأحجار الكريمة والجواهر ومحلى من الداخل والخارج بنقوش وكتابات عربية وفارسية.
كما توجد أيضًا حبّـة قمح كُـتبت عليها تواريخ حكّـام مصر منذ عمرو بن العاص عام 641 ميلادية حتى الملك فؤاد، الذي توفي عام 1936.
أما البرديات، فإحداها تعود إلى عام 709 الموافق 90 هجرية في عهد الحاكم الأموي الوليد بن عبد الملك، إضافة إلى 132 مخطوطًا بالعربية والفارسية والتركية في الطب والأدب والديانات والفلك، منها (مشكل القرآن) لابن قتيبة نسخ عام 989 و"أعظم ملحمة أدبية فارسية"، وهي (الشاهنامه)، التي قضى مؤلفها أبو القاسم الحسن بن إسحق بن شرف شاه 30 عامًا في نظمها، ويعود تاريخ هذه النسخة إلى عام 1393.
كما تضم مخطوطة ديوان "يوسف وزليخة"، من نظم حمد الله بن آق شمس الدين، إضافة إلى 27 مخطوطًًا للمصحف الشريف بأجْـود الخطوط وأروع الزخارف، وخمس نُـسخ من توراة موسى، وكتاب الفلاحة، وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وكتاب اللاهوت.. الصلوات الليلية والنهارية، ومعها أقدم الدوريات (21 دورية) كـ"اللواء" و"المقطم" و"أنيس الجليس".
وتُـعد النسخة الوحيدة من "الرسالة في أصول الفِـقه" للإمام محمد بن إدريس الشافعي، والتي كتبها الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي في مطلع القرن الثالث الهجري وعليها إجازة بخطه بنسخ الكتاب، والمؤرخة في سنة 265 هجرية، أقدم مخطوطات الدار على الإطلاق.
وقد تولت دار الكتب منذ عام 1911، الإشراف على مشروع إحياء الآداب العربية، فأخرجت عددًا من الكتب القديمة في صورة مشرقة، محققة الأصول على منهج علمي دقيق، مثل: الأصنام لابن الكلبي، والتاج للجاحظ، والجزء الأول من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، وكلها من تحقيق "أحمد زكي باشا".
منذ ذلك التاريخ، توالى صدور كُـتب التراث التي يُـراعى في إخراجها الالتزام بالنواحي العلمية، وقام عليها نفر من كبار المحققين. ومن أشهر الكتب التي أصدرتها الدار، صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأدب للنويري، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، والأغاني لأبي فرج الأصبهاني، وتفسير القرطبي.
كما أخرجت طبعة رائعة للمصحف الشريف عام 1952، عُرفت باسم "مصحف دار الكتب"، ولا تزال دار الكتب تواصل رسالتها في هذا المجال وتوالي إصدار أمهات كتب التراث، بالإضافة إلى نشاطاتها الأخرى، باعتبارها واجهة حضارية للأمة ومجمعًا لتراثها القديم والحديث، وملجأ للباحثين والراغبين في القراءة والمعرفة.
متحف شعبي
وقد بقيت دار الكتب المصرية كيانًا قائمًا بذاته له شخصيته الاعتبارية، وظلت على استقلالها إلى أن أنشِـئت دار الوثائق التاريخية القومية بالقانون رقم 356 لسنة 1966، وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 450 لسنة 1966، لتصبح دار الكتب والوثائق القومية.
وفي عام 1971، صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 2836 بضمّ الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر إلى دار الكتب والوثائق القومية، ليصبح إسمها الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وفي حفل افتتاح الكتبخانة، قال محمد صابر عرب، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، "إن الدار ستكون جامعة شعبية للباحثين وللشباب والمتردّدين المتخصصين فقط في مجال التراث، ومتحفًا يفتح أبوابه للشعب، وخاصة للجمهور من الباحثين والدارسين وطلبة الجامعات وتلامذة المدارس".
وقال عرب "التراث ليس مجرّد كتاب ولا مجرّد مخطوط، هناك أيضًا التراث المعماري، هذا المبنى بجماله وروعته، لابد من أن تـُبعث فيه الحياة من جديد، لأن دار الكُـتب لم تكن مجرّد مكتبة تقليدية منذ إنشائها، بل إنها كانت من أهم المكتبات في العالم، وضمت أعظم مقتنيات اللغة العربية".
وأشار عرب إلى أن مقتنيات الدار ستُـتاح للباحثين والمتردِّدين في صورتين: إحداهما ورقية، والأخرى إلكترونية، بحيث يتمكن الزائر من الإطلاع على مقتنيات الدار بالطريقة التي تناسبه، كما تستعد الدار – قريبا - لتدشين موقع إلكتروني على الشبكة الدولية للإنترنت، يحوي نسخة إلكترونية من مقتنيات وذخائر الدار، ليتمكن الراغبون من زيارة الدار والاستفادة من كنوزها، عبر استخدام وسيلة الإنترنت.
كما توفر الدار للباحثين فُـرصة تصوير بعض المواد والموضوعات، التي يحتاجونها في دراساتهم وبحوثهم أو تحقيقاتهم العلمية، وذلك تسهيلا للدارسين والباحثين والمحققين.