ممنوع على الفلسطيني أن يفرح!
وائل البرغوثي / الدوحة
14-09-2007 03:00 AM
سأغامر بالقول بأن لحظة الفرح في المجتمع العربي هي لحظة مليئة بالقلق والتشاؤم من غير أن أقوم بأية دراسات أو أبحاث تساند هذا الطرح ولكني سأسوق مثالا من حياتنا اليومية لأوضح المعنى.عندما يولد طفل لعائلة عربية في الوطن العربي (وليس خارجه لأنني بصدد الحكم على لحظات فرح المجتمع العربي في الوطن العربي فقط)، فإن الأقارب والأصدقاء يأتون مهللين فرحين لهذه العائلة بولادة هذا الطفل، ونسمع دائماً جمعٌ من المهنئين يباركون السلامة ويقولون "عقبال الطهور، أو عقبال المشي، أو عقبال دخول الطفل إلى المدرسة وهكذا". وعند حصول هذا الطفل الذي أصبح شاباً على شهادة الثانوية العامة، يقول المهنئون "عقبال الجامعة، أو عقبال الشغل، أو حتى عقبال ما تفرحوا فيه" وهذه الجملة بالتحديد يكتنفها الغموض في معظم الأحيان حيث أن لا دلالة مكانية أو زمانية لها إلا المستقبل.
وعند حصول الشاب على الشهادة الجامعية، يتمنى له المهنئون دوام الفرح بمباركات مختلفة، فمنهم من يقول عقبال الدكتوراة وهم المتفائلون في زمن ضحل فيه البحث عن الشهادات العليا إلا القليل وذلك بسبب العوامل الاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي، والكثير منهم يقول: عقبال الفرحة الكبيرة، وهذه أيضا جملة يكتنفها الغموض حيث أن الفرحة الكبيرة ربما تعني الحصول على سيارة بالنسبة للشاب أو الحصول على منفعة مادية في الكثير من الأحيان أو معنوية في القليل منها.
حتى لا أطيل على القاريء، عندما يتزوج هذا الشاب، تسمع المهنئون يباركون هذا الزواج بقولهم: "عقبال ما نشوف ولي العهد، أو عقبال ما يجيكم ولد، وهذا في أغلب الأحيان حيث أننا ما زلنا نعيش البطرياركية القبلية التي ما زالت تعتاش على أهلية الذكر على الأنثى". وأخيراً، عندما يولد طفل لهذه العائلة، تعود رُحى الدعوات مرة أخرى إلى بداياتها ليتمنى الجميع لهذا الطفل بدوام الصحة والعافية وعقبال الطهور!
ربما وصل المجتمع العربي إلى حالة من عدم الفرح أو التمتع بلحظة الفرح، حيث أن لأرباب العائلات الكثير من التطلعات لمستقبل أولادهم وبناتهم وينظر الكثير منهم إلى المستقبل بتشاؤم لما تعيشه هذه الأمة من وهن وضعف سياسي واجتماعي، كما يشعر هؤلاء الأهالي بحالة من عدم الاستقرار ودوام التفكير بالمستقبل المظلم.
في هذا المجتمع العربي، نجد أن معنى الفرح عند الفلسطيني يختلف اختلافا جذرياً عن مختلف أنواع الفرح في العالم أجمع وليس فقط في المجتمع العربي. فالتمتع بلحظة الحياة عند هذا الشعب هي النعمة الأعظم من رب العباد والتي ربما حُرم الكثير من أفراد هذا المجتمع لحظة التمتع بها.
للشعب الفلسطيني، وبالتحديد فلسطينيي الداخل، لحظات فرح يعيشونها ويدركون قيمتها عندما يستيقظون في الصباح، ولا أريد للقاريء أن يبحث عن تكملة لهذه الجملة فالاستيقاظ في الصباح بحد ذاته لحظة فرح بالنسبة للفلسطيني! لحظات الفرح كثيرة تلك التي يعيشها الفلسطيني تحت نير الاحتلال، ولو جمعنا كل لحظات الفرح التي يعيشها الشعب العربي أجمع لن توازنها لحظة فرح واحدة لأهل "فتى خرج الغداة ولم يُصب"!
ليس المقصود بالكلام هنا الشفقة على هذا الشعب، فنحن شعب لا يقبل الشفقة ولا يقبل بالرياء حليفا، كما أنني لم أبالغ في وصف لحظات فرح هذا الشعب وإليكم قصة قصيرة حدثت في فلسطين.
الحاجة أم مازن، تسكن في طولكرم، ومثلها الكثير من الأمهات الفلسطينيات اللواتي يقضي معظم شبانها في سجون الاحتلال أو بعضهم خارج فلسطين ليعين عائلته على حليفنا في هذا الزمان، الموت الذي "ملأنا البر منه قتلى كرام". ومثلها مثل الكثير من الأمهات الفلسطينيات، زفت زوجها شهيداً جراء التعذيب في سجون الاحتلال.
وفي صبيحة يوم من الأيام، قام الجيش الصهيوني بقصف المدينة، فقام أقارب الحاجة أم مازن بالاتصال بها للاطمئنان على العائلة، وفي منتصف الاتصال الهاتفي، سمع المتصلون صراخ أم مازن (ويمكنهم أيضاً سماع القصف الصهيوني من وراء الهاتف) وهي تقول :"انحرَقَت انحرَقَت" وتركت سماعة الهاتف، فانتظروا دقائق معدودة مرّت كالسنوات وهم في حالة من القلق الشديد على العائلة، لتعود أم مازن إلى الهاتف. وعند سؤالها عن الصراخ وللاطمئنان على سلامة العائلة وأمنها من القصف، أجابت أم مازن بأنها خافت على "طبخة ورق العنب" التي كانت على النار من الاحتراق!
وبعد التقاط الأنفاس، تم سؤال أم مازن عن اصرارها على طبخ ورق العنب في ظل القصف بدلا من الاختباء منه، أجابت وبكل بساطة: "وإزا صابتنا قذيفة، يموتوا ولادي وهمّ في نفسهم ورق العنب؟".
ما أعظم هذا الشعب، الذي يعيش كفاف لحظته ولا يهاب الموت، الشعب الذي لن يستطيع أحد وصف تحديه للصعاب وعيشه المرّ كل يوم، والتحدي الأعظم هو عدم قدرة أحد على التوغل في صدر هذا الشعب ليبحث عن هذه اللحظة، لحظة الفرح التي نتمنى أن نعيش نصفها ولو بعد حين لنقدّر معنى الحياة التي يتغنى بها شعبنا كل يوم.
يا أمنا أدري بأن المرء قد يخشى المهالك
لكن أذكركم فقط فتذكروا
قد كان هذا كله من قبل واجتزنا به
لا شيء من هذا يخيف ولا مفاجأة هنالك
يا أمتي ارتبكي قليلاً إنه أمر طبيعي
وقومي إنه أمر طبيعي كذلك
لقد سُلبت لحظة من هذه اللحظات التي يريد هذا الشعب دائما أن يحتفل بها، كما هي حال الفلسطيني الذي يُسلب كل يوم عشرات المرات من إخوانه وأعدائه مجتمعين وكأن "كاتب التاريخ قد استثنانا مرة أخرى"، هذه اللحظة التي ندافع عنها نحن الهائمون في الشتات، لحظة أن يتوج فلسطيني بغض النظر عن نسبه وحزبيته ومرجعيته السياسية في محفل عربي أو عالمي، يتوج هذا الفلسطيني ليس لهدف مادي فأموال العالم لن تشتري لنا هذه اللحظة، بل لأنها:
حكاية شعب لغة الله خبزهم والماء،
وخطاهم في الأرض ترسم شعراً هذبته السراء والضراء
فإذا ما قلنا القصيدة فإنا للذي يكتبونه قراء
وإذا ما سئلت مَن شاعر القوم غداً قلت أهلي الشعراء
وأرى أبلَغ القصيد جميعاً، أننا في زماننا أحياء
فما بالنا ولحظة الفرح تُسلب من أمامنا في محفل فيه الإبداع موشوم "بدَقّة" فلسطينية، في محفل تنسِج فيه الثقافة الفلسطينية أثواب الشعر الفصيح والعامي، في محفل ترسم فيه الثقافة الفلسطينية صورا ومعان جديدة للإرداة والقوة والجبروت ولحظات الفرح المكنون.
لا أتهم أحداً بتزوير نتائج برنامج أمير الشعراء، فلا أملك دلائل على ذلك، ولكني أتهم كل من سوّلت له نفسه أن يسلب الشعب الفلسطيني فرحة مستحقة وأن يضيّق علينا الزمان والمكان، ولا يحسب حساب الدهر الذي "لو عرف حق قوم، لقبّل منهم اليد والجبين".
أكاد أجزم بأن تميم الفلسطيني الآن في القمة، يتربع على عرش الشعر الفلسطيني والعربي، حيث استطاع بشعره أن يجمع الفصائل المتناحرة تحت رايته وقوّم الشعر العربي لصالح القضية المركزية دون أن يقع في فخ الصراعات الداخلية الذي وقع فيه الكثير، بل ذكّر الجميع بالقضية الأساسية الوجوهرية لفلسطين الكل.
نعلم جميعاً بأن تميم الآن في القمة، وأن عطاءه سيتواصل، فهذا أمر طبيعي للفلسطيني، ولكن لحظة الفرح التي لم يعشها الفلسطيني في الداخل أو في الشتات هي التي سُلبت منا جميعا.
لقد عشنا مع تميم الفلسطيني لحظات فرح كثيرة لن يعرفها أحد إلا من عاش لحظة الفرح بالحياة، فهذا أمر طبيعي للشعب الفلسطيني، "فما ردَّ الرثاء لنا قتيلاً، ولا فك الرجاء لنا سجينا"، ولكن "الحق مشتاق إلى أن يرى، بعض الجبابر ساجدينا".
http://wbarghouti.maktoobblog.com