لله درُّ هذه السنوات ما أسرع دورتها وما أعجل انقضاءها , تسير بنا في خط بياني متواصل فترسم مسيرة اسمها العمر وتعلي بنيانا اسمه التاريخ , تقلُّنا في محطات ثم تخلفنا في أخرى فلا نملك من قرارنا شيئا , لا موعد الإقلاع ولا موعد الهبوط .قديما قيل للنبي نوح عليه السلام : كيف وجدت الحياة وقد عشت ما يقارب الألف عام ؟ فأجاب : وجدتها قصيرة فكأنما دخلت من باب وخرجت من باب آخر . وقالت العرب أيضا : الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك . أما أمير الشعراء فقد عبَّر عن هذا المعنى أجمل تعبير بقوله :
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
عجلة في عجلة , وسنوات تسرق منا ونحن مشدوهون فاغرو أفواهنا ملتهون بالتفاصيل المملة والأحلام الطائشة , وقلَّ منا بل عزَّ أن يوجد من ينظر إلى البعيد ليستكشف مجهولا يتربص به على بعد خطوات قليلة ومآلا لا يملك منه فرارا .
أما المجهول فهو كذلك لأنه غاب عن الحس فلم نعاينه واقعا أو نجربه حقيقة معاشة , فهل منا نحن معشرَ الأحياء من عانى سكرات الموت أو خَبِر حياة البرزخ ؟ وهل منا من تذوق شيئا من نعيم الجنة وحلاوتها أو جرَّب – أعاذنا الله وإياكم - لفح جهنم وسمومها ؟ الجواب معروف والنفي مؤكد , وعليه فان أقصى ما نمتلكه في حياتنا هذه هو وصف مجمل في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وتفصيل موجز في سنة الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
هذه هو وجه المجهول .. خبر منقول , لكنه في الوقت ذاته عند من وهبه الله عقلا راسخا و قلبا مطمئنا حقيقة لا يتطرق إليها شك أو تنازعها وسوسة , بل انه يرتقي في درجات اليقين إلى ما هو فوق ذلك ليكون عند طائفة من المؤمنين الصادقين علم يقين , وعند طائفة أخرى أزاح الله عن عيونها كل أصناف الغشاوة والخبث عين يقين , عين اليقين هذه هي أعلى درجات الإدراك والمعرفة وأسمى مراتب الإيمان والإتباع .
هذا هو مناط الإيمان الحقيقي عند من وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " .
رمضان , زائرنا العزيز ووافدنا المرتقب , أيام قليلة نقاوم خلالها ضعف أنفسنا ودنس شهواتنا , أيام قاسية فيها لهيب وهجير وعطش , فيها منع ورقابة , فيها أوامر صارمة تخرج ذلك الخَبَث الكامن في أعماقنا إلى السطح فتساعدنا على طرحه جانبا والخلاص من تبعاته , أيام معدودة يغدو فيها نافخُ الكير حاملَ مسك وضعيفُ الإرادة ذا شكيمة قوية , أيام نتحضر فيها لمواجهة يوم كان مقداره خمسين ألف سنة , لعل وعسى أن تفيدنا التجربة فننجو من لهيب جهنم الذي هو آخر مراحل التطهير واطِّراح الخبث لمن لم تنفعه هذه المحطات المتتابعة في الحياة الدنيا .
رمضان مفهوم كبير يتناول الإيمان علما وعملا , روحا وجسدا , انه عدو الشهوة وكابح جماح الرغبة . وقد خاب وخسر وخرج من الباب كما دخل منه من ظنه امتناعا عن الطعام والشراب وترشيدا لشهوة الجماع فقط , هذا الذي يراه أكثر الناس هو رمضان الصغير , الفترة المحدودة بثلاثين يوما تبدأ وتنتهي في وقتين معلومين , أما جوهر الأمر وهدف التكليف فهو أن نعيش رمضانا كبيرا لا يفارقنا يوما واحدا , رمضانا متواصلا يخلصنا من رمضاء حياتنا الضائعة وأمراض نفوسنا المستعصية .
وكل رمضان كبير وصغير وأنتم بخير
samhm111@hotmail.com