رغم كل ما يقال عن الثورات العربية التي تفجرت منذ بداية العام الجاري، ورغم محاولة البعض إلباس هذه الثورات ألبسة مشبوهة، سواء بربطها بأجندات خارجية أو ترتيبات غربية في المنطقة، إلا أنها فرضت نفسها بقوة على الواقع العربي والعالمي.
إلى الذين يحاولون التصغير من شأن هذه الثورات نقول: ألا يحق للعرب كباقي الأمم والشعوب أن يثوروا في وجه الظلم والاستبداد والنضال من أجل حياة كريمة بعد صمت تجاوز النصف قرن، كان يقال إن العرب أصبحوا في عداد الموتى، وعندما ثاروا اليوم يشكك بقدراتهم ونواياهم؟!
لقد تعب العرب من الحكم الغصب والسطو على إرادتهم وقدراتهم من قبل زعماء ألّهوا أنفسهم، ولم يعد أحد من هؤلاء يحسب حساباً لرعيته أو يتذكر أنه موجود لخدمتهم.
الانفجار الحاصل على الساحة العربية أمر طبيعي ودورة بديهية لحركة الشعوب، وتفاعل حقيقي مع حركة التاريخ، فقد نمت أجيال عربية جديدة تفاعلت مع ما يحدث في العالم من احترام لحقوق الإنسان ومقدرات الشعوب، في وقت ينظر فيه الإنسان العربي إلى حقه المغتصب في الحرية والثروة ومقدرات وطنه تتحكم بها حفنة من الحكام الابديين غير الشرعيين والذين لا يراعون حياء ولا حقا بشيء.
هل يعقل ان يحكم شخص واحد شعبا بأكمله اكثر من نصف قرن على امتداد اجيال عديدة وعلى هذه الاجيال ان تنحني له صباح مساء دون ان يحق لها ان تسأل. اذا كان الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي مارس الحكم فقط عشر سنوات اذا اعتبرنا انه كان اثناء الثلاث عشرة سنة الاولى في مكة داعية فقط .
اذا كان نبي ورسول بكل امكانياته وقدراته حكم عشر سنوات فقط فكيف لانسان عادي واحيانا اقل من عادي بقدراته الفكرية ان يحكم نصف قرن دون حسب او رقيب ؛ اليس هذا قهراً للشعوب واحيانا قتلاً لها؟!!
لقد أساءت النخبة الحاكمة في الوطن العربي حتى إلى فكرة تداول السلطة عندما حولت الجمهوريات إلى سلطات مطلقة ومفتوحة تورّث للأجيال، وتحولت الانتخابات العربية وكأنها مهرجانات للتسلية.
كان من الطبيعي أن تثور الشعوب العربية بعد سكوت دام نصف قرن، وهي ترى الثروات المنهوبة والكرامات المهدورة وإرادات مرهونة لأجندات خارجية، لا هم لأصحابها إلا اغتصاب المقدرات وإهانة الكرامات.
مهما قيل ويقال عن ثورة العرب الجديدة على امتداد الأرض العربية ومهما حاول البعض أن يركب موجتها، تظل بالأصل ثورة شعوب تعبت من الذل والاغتصاب والتهميش، ولا بد لكل ثورة أن تشهد في بدايتها بعض الأخطاء والهنّات، ولكن ما حققته ثورة العرب الحديثة بمقياس الزمن أمر عظيم، فقد أسقطت أربعة أنظمة حكمت عقودا طويلة بالحديد والنار، لكنها هوت أمام غضبة الشعوب، لأن الشعوب إذا غضبت فتكت، وأرعبت الباقين، وهزت كراسي حكمهم التي يجلسون عليها.
لم يعد أمام حكام العرب إلا التوافق مع رغبة الشعوب الجامحة نحو الحرية والعدل والمساواة، أو الوقوف بوجه الثوار الذين ثبت أنه لا يمكن لأي حاكم مهما كان أن يقف أمام حقهم في حياة كريمة.
إنه زمان عربي خالص، يعود الفضل به إلى حراك الشعوب العربية، التي بقيت ما يزيد على نصف قرن وهي تنظر إلى بقية شعوب العالم كيف تمارس حقها في الحياة الكريمة، وتمارس حقها بثرواتها، في وقت كان على المواطن العربي -منذ ولادته- أن يلبس لباس الذل والهوان والولاء الأعمى لحاكمه قبل أن يتنفس هواء الحياة، محروما من ثروات أرضه، ومحروما حتى من التفكير في الهواء الطلق.
لقد نمت وكبرت كما قلنا أجيال عربية جديدة، طافت فيها روح الحرية، والحق في الحياة، كما أرادها خالقها، بعيداً عن استبداد الحكام، ولن ترضى هذه الأجيال صاحبة الروح الوثابة بعد اليوم أن تكون مطية لأي حكم غصوب، وسيكون العرب بفضل الروح الجديدة التي دبّت في عقولهم وأرواحهم انموذجا لكل الشعوب والأمم في الحرية.
ولن يضير ثورات العرب اختلاف نخب المعارضات العربية المنتشرة في كل بقاع العالم، والتي تتجهز للانقضاض على الغنيمة، وكذلك لن يضير هذه الثورات ما يدبر لها أزلام السلطات العربية المرعوبة مما يحدث في الشارع العربي من محاولات تشويه ووصف للثوار بأنهم جياع يبحثون عن لقمة العيش، فهؤلاء قبل أن يبحثوا عن لقمة العيش يبحثون عن حرية الحياة، والتفكير والكرامة.
العرب يعبرون اليوم إلى زمن جديد، مؤطر بالحرية والاحترام وحقوق الإنسان والتقاسم العادل للثروات والسلطات، ولن تستطيع قوة في الأرض أن توقفهم بعد أن انطلقوا بإرادتهم التي تمردت على كل عقود الذل والاغتصاب وعقود التغييب القسري لإرادتهم.
(الدستور)