في الأعراس، كانوا يقدِّمون لك القهوة، فأنت بصحبة أبيك طفلاً. وكنت تتعمَّد ألاَّ تهزَّ الفنجان كالعادة؛ لتكسب صبة ثانية وثالثة، لكنَّ الأبله يتجاهل يدك الصغيرة، فيكون عليك أن تتلذذ بمرارةِ القهوة الممزوجة بقليل من التحسر على فنجان ثان.
وعندما كنت تسلخ وقتاً طويلاً، تراقبُ جدك المنخرط بطقوسه يحمِّص القهوة الخضراء بالمحماسة (ما يشبه المقلاة السميكة بيد طويلة) فوق الجمرات الراقصة بالحمرة اللاهبة، وبعد أن تبرد، ويتطاير حرها، يلقمها بحفنته لفم المهباش ويدق، وكأنه يؤدي سيمفونية على (مقام الكيف)، فترقص قدماك، ويترنح رأسك، وتتمتم ما تيسر لك من قصيد، تبتكره بهمس بهيج، بينك وبينك!.
ثم يكون عليك أن تتابعه يضيف القهوة لدلة الماء المركونة فوق كانون الجمر، ويكون عليك أن تنتظره ليدق حبات الهال، ويلحقها بالقهوة، وينتظر أن تنضج على وشوشة الفحم، ويطير عبقها في فضائك القريب!.
في العادة كان يسكب فنجاناً، ويتذوقه بتلذذ أولاً، ثم يسكب لك واحداً بعد أن يقرعه بمنقار الدلة مخرج رنة لا تنسى، ويقول باسماً: الفنجان الأول للضيف، والثاني للكيف، والثالث للسيف، وأنت دائماً يعجبك أن تثلث، وعندما تسأله يقول: الأول يعني أنك ضيف، والثاني أنك على استعداد أن تدافع عن شرف صاحب القهوة بسيفك، والثالث أنك تحب الكيف!.
ولما كنت أصغر، كان أبوك يلقِّنك أول الشعر متغزلاً بالقهوة:(أنا المحبوبةُ السمراء، وأجلى بالفناجين/ وعود الهند لي عطرا، وذكري شاع في الصين)، فتبني أبياتك فوقها، وتحلِّق بجناحين من قهوة، معتقداً أن الصين في آخر الحارة، ويدعك أبوك أن تشرب أواخر فنجانه: رشفةً رشفةً؛ فترتعش الضحكات في رأسك كعصفورٍ شغوب، معانداً أمك التي تنهاك عن القهوة، خوف أن ينضج شاربك باكراً، فتشرب المزيد، متخيلاً شارب أبيك!.
وبقايا الفناجين، أول عهدك بها، إذ تغافل أمك، التي تودِّع ضيوفها، وتدخل الغرفة، وتطوف عليها فنجاناً فنجاناً، تشرب سؤرها، وتمصَّ ثفلها، وترفعُها فوق فمك الفاغر؛ لتقطر آخر قطراتها، وكم تفرح بفنجانِ أبيك، الذي يتركه نصف فارغٍ، فهو يشرب على مهلٍ، حتى تفاجئك أمك متلبساً؛ فتنهال على أصابعك الملطخة بصفع لذيذ، وهي تمسح شاربين غليظين، ولحيتة مكتظة!.
وتكبر، وتبلعك المدن، وتصير لا تأخذ قهوتك، إلا وحدها، دون سكر، وبالفنجان الأبيض كعروس، بعد أن تتركها تتقلَّب على النار سبع مراتٍ، وتمقت نفسك، أن تشرب بعدها ماءً، أو تأكل شيئاً، فعليك أن تبقيها بفمك طويلاً، ليزهر الشِعرُ بين أصابعك، ولتخضر الكلمات!.
ramzi972@hotmail.com
(الدستور)