إذا كان ازدياد الثروة هو السبب الأساسي في ظهور الحكم الاستبدادي, وفق أرسطو, فإن الثروة استطاعت أن توجد أشكالاً مختلفة من الديمقراطيات لتضمن بقاءها في يد فئة محتكِرة.
صناديق الاقتراع المنتشرة في معظم دول العالم, وانفتاح الإعلام وانتشاره, وظهور منظمات المجتمع المدني لم يوقف احتكار الثروة وتزواجها مع السلطة والأمن.
هذه الخلاصات أملتها مطالعتي تقريراً إخبارياً حول ترجمة كتاب "المدينة الإغريقية" لمؤلفه المؤرخ الفرنسي غوستاف جلوتز إلى العربية للمرة الأولى.
جلوتز يشير إلى أن الحكام المستبدين, الذين تركوا أثرا في التاريخ كانوا من كبار البناة; لأنهم "يوحون إلى الشعب بعزة قومية تنسيهم حريتهم المسلوبة, وكانت هباتهم السخية تجذب المعماريين والنحاتين والشعراء من كل فج", ويحرصون على تنظيم مسابقات غنائية ومسرحية.
الاستبداد يبرع في توظيف الأدباء والفنانين والمثقفين من أجل تمجيد المستبد وبطولاته وإنجازاته ما يكفي لنسيان الحرية أو تناسيها, والتركيز على تأسيس الدولة وبنائها.
المثقف نفسه في الأنظمة الديمقراطية يغيّر موقعه خلافاً لما كان عليه في الأنظمة المستبدة, لكن وظيفته تبقى ثابتة, إذ يقترب من مركز السلطة المتشكلة في الديمقراطيات المتمثل بمحتكري الثروة, ويروّج لها ولمنظومة قيمها.
وهنا يدافع المثقف عن الحرية والمساواة, ويشارك في مهرجانات ومؤتمرات ومسابقات تتغنى بالديمقراطية في حدود الحفاظ على النظام, واستمرار تكريس الثروة والسلطة, ما يكفي لنسيان "العزة القومية".
الحرية والعزة القومية تصبحان مجرد مفردات فائضة عن الحاجة, ما دامت الحرية تكفل سيطرة الشركات متعددة الجنسيات والهيمنة الغربية على العالم, وكذلك الحال بالنسبة للعزة القومية التي تحفظ الأنظمة المستبدة من الزوال.
مفارقة أبدية تتجلى في إنسان يتوق إلى حريته التي سلبها حاكم مستبد, وحالما يتحرر من واقعه يستبد به حنين إلى ماضيه, كما تجسده صورة وزعتها الوكالات لزوار يحجون إلى قبر دكتاتور, ويضعون الورود عليه, ويترحمون على أيامه.
من يتحكم بالثروة يحدد شكل السلطة, التي تحتاج, حتماً, إلى سجن كبير ربما كان على مساحة الوطن كلّه وعلم ونشيد وطني ودستور, ومثقفين يجيدون صنع الوهم.
mahmoud1st@hotmail.com
العرب اليوم