اعرف حكاء بلغ تخوم التسعين وما يزال "مُغيراً" أي مقبل على الحياة ذاكرة وجسدا ومضاء وحبا للسهر والقص، على حد قوله. تزوج ثلاثا وما تزال المرأة لديه صاحبة حضور وحظوة. ذات ليلة كان يسرد قصة تشاق وصعلكة قال انه عاش فصولها في صباه.
بدأت قصته من الكرك لتمتد سبع ليال من المسير ليلا والتبييت نهارا متخذا من الغور طريقا لمغامرته في سرقة قطيع بقر تفاجأ بوجوده حين أطلّ غربا مع ساعة المغيب في جوار قلعة الكرك. اردف بلهجة البادية : وانا اتمثنى لهن مع إخلاط الرماس. اي هبطت المنحدر نحو القطيع مع حلول العتمة. قال انه باع هذا القطيع او ما تبقى منه في الخليل لقاء ثمن بندقية وحُلّةِ شاب على أُهبة عرس.
بسرده الماكر الذي يشي بدهاء عقل كان في مقدور صاحبنا توريط سامعيه في مأزق البحث عن الخلاص من موت على يد قطاع طرق او جياع كانت البلاد الاردنية تغص بهم في ثلاثينيات القرن الآفل. كانت قصصه إشكالية يُسلسل احداثها بفوضى مرسومة بعناية في مسعاه لتوريط واع عادة ما يستهله بذروة القص ليبلغ الامتاع منتهاه، فيخال السامع بعدها ان الرجل خلا وفاضه من تداعيات تجعل القص جذابا. ينبري احد الجلوس مستعجلا ان "بات الطراد" اي انتهت التعليلة وما بقي الا انفضاض السهرة .
كان صاحبنا راوياً متمكناً من سرده مليئاً به، فيجعل المستمعين يلتقطون انفاسهم توتراً وانشداداً وامتاعاً، وفي مقدوره كذلك النزول بهم من الذروة منسابا في قص من دون مفاجآت. يُسقط في يد المتحلقين حوله حين يكشف عن احتياطي زاخر من مناورات تاتي على لسان أدهش سامعيه مرة بقوله: سعيا للتخلص من تعب المسير من الخليل الى القدس التي قصدتها لاشاهد الحرم وأٌصلي فيه وابتاع من اسواقها عطرا وبخورا لفتاة كنت اعشقها في ديرة جنوب الموجب، لذت ببيت في ركن بلدة سلواد القريبة من رام الله طلبا للماء. طرقت باب الحوش الذي انفرج عن امراة ثلاثينية بدت جميلة. ناولتني ماء من الزير، وطلبت بعد ان شربت مساعدتي في استخراج دلو الماء من البئر الذي كان يتوسط باحة المكان. دخلت مندفعا فناولتني حبلا مربوطا بخطافة وبدأتُ محاولات استخراج الدلو مرة وثانية وثالثة لكنها اخفقت جميعا. أُسقط في يدي وخلت نفسي امام مضيفتي كغريق لحظة انقاذه، كسيراً محبطاً وممتناً.
اضاف: لا ادري لماذا انصعت لفكرة انها ورطتني لافشل فتُعريني حتى في صمتها. شعرت انها في طلب المساعدة بذر شكوكاً في نفسي. أنا غريب فازداد قلبي وجيبا.
اغمضت عيني للحظات، واضعا يدي على جبهتي لمسح ما خلت انها حبيبات عرق لشدة الحرج فكنت كمن يسترحمها ضعفي، حتى دهمتني كلمات اطلقتها بدت زاجرة: فشلك يذكرني بوهم التعويل على "الغرباء" و"العابرين" والطارئين" فهم لا يند عنهم الا سيئ يحفر في ذاكرة الناس لقسوته، فهم تماما كنوافذ في ضعفها امام لصوص لحظة اقتحام البيوت. كانت قاسية فبلعت اخفاقي وقسوتها ومضيت من فوري دون ان أُلقي بالاً لعميق مرامي كلماتها وهو ما يوجعني حتى اللحظة.