كعادتي بدأت صباحي بالطواف في عالم الصحافة. وأول ما يممت شطر جريدة الشرق الأوسط. حيث مهبطي القرائي الأول منذ سنوات: مقال أنيس منصور. فأنا لم أعتد بعد، على غيابك المباغت، يا أستاذ. ولهذا فجعني ألا أرى اسمك في قائمة المقالات. أهكذا يرحل الأحبة بغير وداع، أو إشارة.
كان يسخر من دولاب الموت، الدائر بلا هوادة في خضم حياتنا، كان يسخر منه بطريقة العطاء المتسارع، والاندغام المتعشق للعمل، والتشبب، والتجديد. أنيس منصور المبدع والمثقف عالي الكعب والهمة، والذي أمدنا وأمتعنا، بعشرات الكتب ومئات المقالات، في شتى ضروب العلم والمعرفة والافكار، كتب في الفلسفة، وسهلها لنا، وتفلسف عليها وطعمها بما هو متاح من بساطة، وبالسياسة وشرحها بطريقة الخبير الذي يلمح ولا يصرح. والفلك، والعلوم، والحب والنساء والزواج والأولاد. كتب في كل شيء على طريقته الساحرة. إنه طباخ أتقن مقالته، وحشد فيها كل خزائنه، وتوابله.
كنت أتتبع نهر ثقافته، ولماحيته، وروحه الخفيفة، فأراه وبعد طول عراك مع حياة صاخبة (87 سنة)، مليئة بالأحداث، والأسفار، ما زال متفائلاً، كابن العشرين، ومنفتحاً لا يلتفت إلى الوراء، إلا ليقول حكمة نحتاجها أمامنا.
قبل ثلاث سنوات إحتفيت بهذا الأديب الجميل، في هذه الزاوية، بذكر ميلاده، احتفاء غبطة على زخم إنتاجه وتألقه، وعلى حياة نابضة ذات قيمة، وذات مغزى عاشها بكل حذافيرها، كما ينبغي لحياة حقيقية أن تعاش، وحين أتمعن في مقاله اليومي أقول بنفسي: ليس بالضرورة، أن من يعش ثمانين حولاً، يسأم.
قد يكون أن أنيساً عمل طويلاً في الصحافة، لكنه لم ينس أنه جاء من بوابة الأدب. لم تأخذه الصحافة كل مأخذ، بل كان يرتفع عن الحدث اليومي المباشر، ويتعامل مع ظلال الأحداث بطريقته وخلطته ونكهته، ولهذا حشد حوله المحبين من كل الأرجاء.
ولأن الكبار لا يموتون بالمعنى الحقيقي للحياة. وإنما يغيبون بالمعنى البيولوجي، ولأن أنيس منصور ترك إرثاً كبيراً. فإنني أقترح على الزميلة (جريدة الشرق الأوسط)، أن تبقي على عموده اليومي ماثلاً للقراء، وأن تستعيد مقالاته تباعاً، فهي تحتفي بالحياة المتجددة، وتظل صالحة للتعاطي اليومي.
رحم الله فقيد الكلمة، فقد مات وحبرها على أصابعه، بعد أن عاش الكتابة، وكتب ما عاش.
ramzi972@hotmail.com
(الدستور)