زرت جبل القلعة مراراً ولكنني لم أدخل المتحف.
فالأردن، كما تعلمنا علي مقاعد الدرس، هو متحف مفتوح، فما حاجتي إلي هذا المتحف المتواضع الذي بالكاد يبلغ حجمه مضافة بيتنا في المفرق!
كانت الأعمدة الضخمة، معبد هرقل، الآثار الأموية، هي التي تلفت نظري عند كل زيارة، إضافة إلي إطلالة الجبل علي قلب المدينة النابض. في زمن ما، كنت أقيم في الجهة المقابلة لـ (القلعة)) حيث كان أول ما تطالعه عيناي صباحاً هو هذا الجانب من عمّان المتكاتفة، المتقابلة، المطلّة علي صباح الخبز والشاي من سبع جهات.
كان ذلك زمن الأفكار الكبيرة.
زمن الانشغال بالجموع والرغيف ورياح التغيير التي تنكسر وتطير شعاعاً أمام مصدات عالية من القهر والخوف، لا زمن الانشغال بالحجر والرقيم.
الوجوه المتطاولة، والأيدي المعروقة، والعضلات التي تكدح في معاقل المال، هي التي كان علينا أن نقرأ نصوصها المعاصرة، لاالأوابد التي خلفها وراءهم أسلاف غابرون.
غبت طويلا عن البلاد. شممت رائحة البارود عن قرب، رأيت أسلحة في أيدي شيب وشبان، شاهدت أناساً يقتلون، تقريباً، من أجل لا شيء كانت الأفكار تصعد وتنحني علي مدار عالم يحاول ان يدلف الي جنة الأرض من سمت الخياط. هرمت تلك الأشجار الضخمة التي رأيناها عن بعد، ولما وصلنا إليها تقزّمت. تشقق لحاؤها وجفَّ نسغها. كانت الأمطار تهطل بغزارة علي الجانب المظلم من العالم فتتضاعف قتامته وتتطاول أعشابه الشيطانية.
لكن عمَّان ظلت، في هذه الرحلة العوليسية، مطبوعة، بطبوغرافيتها البسيطة في ذهني: وسط البلد الذي يربط المدينة بمقاطعات الزيت واللبن والغبار وينقل الي جنباتها بريد الدم والأعصاب، والتلال السبعة التي تتقابل في ترويدة الخبز والشاي.
في صباح صيفي باكر أقلني الفنان التشكيلي الصديق حكيم جماعين بسيارته الانكليزية ميني كوبر المنقرضة في منشئها الاول، إلي جبل القلعة.
كان هدفي هذه المرة محدداً سلفاً: زيارة المتحف الذي تفاديته طويلاً.
فقد رأيت في برلين ملصقات معرض آثاري أردني يحمل عنوانا بدا لي فضفاضاً ومبالغاً في كرمه: عشرة الاف عام من الحضارة في الأردن!
عشرة الاف عام؟!
قلت في نفسي: أليس هذا كثيراً، بعض الشيء يا قوم!
أين كانت هذه العشرة الاف عام التي يروّج لها العارضون، ومن أين جاءت؟
كانت وجوه عين غزال بعيونها اللوزية المحاطة بخط أسود عريض وأفواهها الصغيرة المزمومة تتراءي كعيون القطط علي الملصقات.
يا لهذه المخلوقات الآدمية الدقيقة الملامح القادمة إلينا من نحو سبعة الاف سنة خلت.
أكان لأناس بلادنا هذه العيون الواسعة التي تشبه عيون القطط البرية، ام انه تعثر الانسان الاول المتحضر وهو يحاول محاكاة الخلق؟
لهذا السبب بالذات توجهنا، حكيم جماعين وأنا، في صباح باكر إلي جبل القلعة .
قلت له: أريد أن أري وجوه عين غزال .
لكننا قبل ذلك أوقفنا سيارتنا عند محل قهوة مرتجل، محشور بين (بنشرجي) وكهربائي سيارات عند مدخل القلعة . كانت سيارة حكيم الميني الصغيرة المعاد (نفضها) وتأهيلها لمواصلة مسعي تخلت عنه في بلادها الأصلية، محط إثارة عمال القهوة واصلاح السيارات الشباب الذين ارادوا ان يعرفوا كم اشتراها وهل يريد بيعها. لكن حكيم لم يكن في وارد التخلي عن سيارة لها شخصية مميزة وسط التماثل الكوري او الياباني المسيطر علي الشارع، فقد أنهي المساومات السريعة بكلمة او كلمتين.
شربنا قهوتنا علي عجل ودخلنا مجمع آثار الاقوام التي تعاقبت علي هذه التلة.
لـ القلعة مهابة خاصة. فراغاتها وسط محيط مكتظ تضاعف هذه المهابة.
فهذه التلة شهدت أطوارا من تاريخ الحضارة والعمران والمقدس الذي عرفه الأردن، فعليها أقام العمونيون عاصمتهم الأولي (ربّة عمّون)، وعليها رفع الرومان قواعد معبد الإله هرقل الذي ستخلع المخيلة الشعبية والمرويات التاريخية أبرز خصائصه علي القديس جورج (جرجس) (.. او الخضر في الرواية الاسلامية)، وفي تحولهم الي المسيحية أقام الرومان الشرقيون كنيسة باسيليكية علي أرضها، وبالقرب من الكنيسة هناك القصر الأموي البديع المنسوب إلي الوليد بن عبد الملك.
لا أظن ان هناك موقعاً يجمع سلاسل الحواضر والأقوام والأديان التي عرفها المكان الأردني مثله.
التواريخ والأديان واللغات تتراكم وتتداخل، طبقة فوق اخري، علي هذه التلة المحاطة بأنفاس سكان الجبل المعاصرين، ابناء حياة اليوم التي لن تدعهمم يتركون وراءهم ما تركه اسلاف قدماء.
ظننا، حكيم وأنا، اننا جئنا مبكرين، لكن السياح الأجانب الذين عليهم ان يبدأوا برنامجهم المنظم من القلعة ليواصلوا طوافهم علي أمكنة اخري في عمان، كانوا قد سبقونا. حكيم الذي درس وأقام في ايطاليا سنين طويلة ظن ان النازلة من درج المتحف بعمودين من رخام فتيّ لوحته شمس المتوسط، ايطالية، فطلعت، بعد ان بادرها بتحية متحرشة، إسبانية.
كان الفريق كله إسبانياً.
لم يكن أحد منهم يتعجل مغادرة واحد من أصغر المتاحف في العالم، فأمام كل حجر، كل حلية، كل لفافة، كان هناك تمهل واستغراق.
لم يكن هذا دأبنا. لكن التزام السياح الاسبان بالتوقف المنظم، المتهمل امام مقتنيات المتحف جعلنا نفعل الأمر ذاته، ولكن بشيء من نفاد الصبر. فغايتنا واضحة، وهي هي تلوح لنا في وسط المتحف: وجوه عين غزال .
لم نجد في المتحف من يخبرنا عن عدد هذه التماثيل وما اذا كانت كلها موجودة في المتحف ام معارة الي الخارج، حتي عندما طلبنا كتيباً أو منشورة تحتوي مقتنيات المتحف قال لنا احد الحراس إنها نفدت، وان المتحف بصدد اعادة طبعها!
كانت تماثيل عين غزال تتوسط مقتنيات المتحف القليلة وتشع بألق خاص، قد يكون مصدره عيونها اللوزية/ القططية وصمتها الذي يخبيء حكايتها.
لهذه التماثيل الصغيرة المحدقة بعيونها اللوزية تأثير آسر علي من يقف امامها، فلن يقيض لك ان تري مثلها في اي مكان في العالم، ليس بسبب قدمها الذي يعود الي العام 6500 قبل الميلاد (وهذا بحد ذاته ليس قليلا) وانما بسبب تكوينها ذاته، اضافة الي المواد المستخدمة في صنعها والتي جعلتها بهذا الألق الي اليوم. لكن الغريب ان المواد التي استخدمت لصنع تماثيل (عين غزال) وتلوينها لا تتمتع بأي صلابة خاصة، فهي ليسست من الحجر او الرخام، بل خليط من الحجر الجيري المحروق والصلصال، فيما العيون مؤطرة بلون اسود عريض بعض الشيء، يشكل تناقضا غريبا وآسرا في الوقت نفسه. الصدفة البحت هي التي مكنتنا من رؤية هذه التماثيل وغيرها من أوابد تعود الي تلك المستوطنة القديمة، فقد عثر العمال الاردنيون اثناء شق طريق في منطقة (عين غزال) عام 1974 علي هذا الموقع الاثري الفريد، حيث أكدت ابحاث علماء الاثار انها تعود الي واحدة من اقدم المستوطنات البشرية في العالم.
تنظر الي التماثيل الصغيرة فتري ملامح ادمية محددة ومزينة بخطوط سود، بعض اجزاء التماثيل مدهون. داخل الجفون مطعم بالقار، القزحيات المستديرة، الواسعة مرسومة بالطباشير. هناك تمثال يظهر جسدا اكثر اكتمالا، وغير مزين، لكن الوجه شديد التأثير علي الناظر بسبب العيون ذوات الشكل اللوزي. أما التماثيل النصفية الثلاثة ذوات الرأسين فقد حيرت علماء الاثار بسبب تقاسيم الوجه المشغول بدقة متناهية تتناقض تماما مع اجسادها المنبسطة الشبيهة بالألواح. كأن الشغل انصب علي الوجه وترك باقي الجسدد يرتع في خامته الاولي.
سيكون مدهشا أن نعلم أن سكان مستوطنة (عين غزال)، الواقعة بين عمان والزرقاء، تمكنوا من صنع هذه الأوابد التي صمدت امام امتحان الزمن القاسي نحو عشرة الاف سنة، قبل ان يكتشف الانسان صناعة الفخار التي لم تعرف الا في نحو 5500 قبل الميلاد!
في المحتف الاردني الصغير مقتنيات نادرة مثل لفائف (قمران) ولكن لا شيء يمكن أن يأسرك مثل تلك العيون القططية التي تحدق بك بثبات.