هناك أسلوب جميل تعلّمناه في أثناء الدراسة؛ لإثبات بعض القواعد العلمية (الفيزيائية خصوصاً). و الأسلوب ذاك، مفاده إمكانية إثبات صحة بعض النظريات من طريق إثبات أنّ عكسها خاطئ. أو بكلمات أخرى: تعريف الشيء بنقيضه.و على هذا القياس، يَسَعُنا أنْ نُعرّف الحبّ من طريق النفي و ليس من طريق الإثبات. فالحبّ ليس غريزة جنسية، لأن الاخيرة موجودة في الذكر كما في الأنثى. و ليس الحبّ بالشهوة؛ ذاك أن الإنسان يمكنه أن يحب دون أن يشتهي. كما أنّ الحب ليس صداقة، فالأخيرة تكون أقوى ما تكون بين اثنين من الجنس نفسه، فيما الحب يكون أمتن ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين، ثمّ إن الصداقة تأتي غالباً بالاختيار و الانتقاء؛ و هذا ليس حال الحبّ و المحبين. و الحب ليس الرحمة؛ لأن الإنسان قد يعذّب حبيبه عامداً متعمداً، دون أنْ يمنع هذا العذابُ المحبَ من طلبه من الحبيبة و الإلحاح عليها بالمزيد منه، و ربما يستمتع بهذا التنكيل. و في هذا المعنى، قال مجنون ليلى: يقولون ليلى عذّبتكَ بحبها / ألا حبّذا ذاك الحبيب المعذ ِّب. و قد يقبل الحبيبُ العذابَ مع الاقتراب و الاتصال؛ علّ هذا الاخير يستحيل إلى وصال، على حين أنّه لا يقبل الرحمة مع الفراق و الهجران؛ فالحب، إذن، ليس الرحمة.
في الحب شيء من العادة؛ ذاك أنّ المحبّ يَسَعُه تركَ حبيبه إذا كان ذلك لا يغيّر من عاداته. و قد يكون في الحب شيء من الخداع و المخاتلة؛ لأن إحدى النساء قد تكون أجمل المخلوقات في عين أحد الرجال، على حين أنّها قد تكون أبشع المخلوقات في عين رجل آخر، بديهة. و العكس صحيح كذلك؛ و غنيٌ عن القول و الجهر أنّ هذا هو الخداع بعينه. و ربما كان في الحب شيء من العدوانية؛ فالمحب – أحياناً – لا يستطيع فكاكاً من أسر و أغلال الحبيب. و في الحبّ شيء من الانانية و النرجسية المتورمة، إذا جازت العبارة. و لا ريب أنّ في الحب شيئاً من الغرور؛ و آية ذلك أنّ المحب يعتقد أن حبيبه ترَكَ سائر الخلق و نحا نحوه و اصطفاه من بينهم. لكنْ ما يرقى مرقى اليقين هو أنّ الحبّ يمكن أن يخلو من كلّ شيء في ما عدا الاهتمام ؛ فالحبيب قد يحتقر حبيبه و يزدريه و يبغضه، و ربما يشتمه، لكنّه أبداً لا يستطيع أن لا يهتم به.
و لعلّ في الحب شيئاً من القضاء و القدر. و القرينة على ذلك، هي أنْ نسأل أسئلةً من مثل: لماذا أحبّ فلانٌ فلانة؟ لماذا هي بالذات؟ هل لأنها جميلة؟ هناك الكثير من الجميلات. هل لأنها ذكيّة؟ هنالك الكثير من الذكيّات؛ إذن: قضاء و قدر. و الاخيران يمتلكان الإنسان، و الأخير لا يمتلكهما.
فإذا اتفقنا أنّ الحبّ خليط هائل من المشاعر المتناقضة و المتنازعة؛ وسِعَنا أن نقول أنّ في الحب شطراً من حنان الأمومة، و مودّة الصديق، و يقظة الساهر، و ضلال الحالم، و نعْسة السكران، و يقين المؤمن. مثلما أنّ فيه الكثير من الصدق و الإيثار و الوهم و الشرود و الوجوم و الرجاء و الأمل و اليأس و البأس و اللذة و العذاب و المطمح و المطمع و الغرور و الهوان و الإثم و البراءة و الكرّ و الفرّ و الإقبال و الإدبار، معاً و جميعاً.
و غاية القول أن الحبّ بحر متلاطم من العواطف و المشاعر و القيم. و لعلّ هذا ما يفسّر أن الحبّ مِنْ أقوى و أعنف العواطف الإنسانيّة و أكثرها جموحاً و تبريحاً.
لكنْ كيف يكون الحب في جسدين و لا يضطرب التنازع بينهما كما تضطرب النفس الواحدة؟ أو كما «تحاور النفسُ نفسَها» (على قول ابن رشد، مترجِماً و شارحاً أرسطو)؟:
يسألونك عن الحب، قل هو اندفاع جسد إلى جسد، و اندفاع روح إلى روح. فلئن سأل سائل ما هي الروح؟ قلنا: «قل الروح من أمر ربّي».
hishamm126@hotmail.com