في غمرة أيام الوفاء التي يعيشها الأردنيون، جاء حفل إشهار كتاب الحسن بن طلال حكاية أمير عربي برعاية صاحبة السمو الملكي الأميرة رحمة بنت الحسن في مركز الحسين الثقافي يوم الأربعاء الماضي وبتنظيم من منتدى الفكر العربي والمعهد الملكي للدراسات الدينية، وهما من المؤسسات الكثير ذات الطابع المحلي والإقليمي والعالمي التي أسسها صاحب السمو الملكي الحسن بن طلال، والتي تعكس جانبا مهما من جوانب شخصية سموه، هو إيمان سموه بالعمل الجماعي المؤسسي البعيد عن الفردية، التي هي مرض عضال فتك بالكثير من المبادرات الخلاقة التي عرفتها مجتمعاتنا لكنها انتهت بنهاية أصحابها أو بسبب نفور الناس من انانيتهم وفرديتهم.
شكل الحفل الذي تحدث فيه كل من طاهر المصري والدكتور بسام الساكت والدكتور منذر حدادين والدكتور علي أومليل والدكتور محمد أبو حمور بالإضافة إلى مؤلف الكتاب الدكتور مصلح النجار لمسة وفاء من الأردنيين، كشفت العديد من جوانب شخصية سموه، التي تجسد نموذجا للخلق الإسلامي الرفيع، ذلك أنه يقدم للعالم صورة المسلم صاحب الرؤيا العالمية بمضمونها الإنساني الشامل الاهتمامات. فمثلما جاء الإسلام للبشرية كلها، واهتم بكل شؤون الإنسان المادية والمعنوية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كذلك هو فكر الحسن بن طلال فكراً عالمي، فبمقدار تشبع هذا الفكر بروح الإسلام العظيم بكل ما فيها من اعتدال وتسامح، كان اطلاع سموه على فكر وفلسفة وحضارة الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، فحاور الصين وحضارتها وحكمتها، وحاور اليابان وعلومها، تماما مثلما حاور الغرب الأوروبي والأمريكي، وكأن الحسن بن طلال بهذا الإلمام الشامل بحضارات الأمم وثقافاتها يجسد المقولة الخالدة (الحكمة ضالة المؤمن إن وجدها أخذها) تماما مثلما تدل سيرته أمد الله في عمره على أنه يجسد المقولة الخالدة (اطلب العلم من المهد إلى اللحد).
ومثلما أن الحسن بن طلال يمثل في جانب من جوانب فكره وسلوكه عالمية الإسلام، فإنه يمثل روح الحوار التي بشر بها الإسلام وطلب من المسلمين ممارستها بقوله تعالى (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) وقوله تعالى ( ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وهي روح أشد ما تكون أمتنا على وجه الخصوص، والبشرية على وجه العموم بحاجة إليها في هذه الفترة من فترات تاريخها حيث كشر التعصب عن أنيابه، وصارت الكراهية ثقافة، والقتل وسفك الدماء ممارسة يومية، والتعصب سمة للكثير من الممارسات، مما ينذر بالمزيد من الشقاء البشري، ما لم يلتف العقلاء حول جذوة الحوار، وينفخون بها لتكون هي لغة الخطاب بين أبناء الشعوب والحضارت، كما ينادي بذلك سمو الأمير الحسن بن طلال، فانطلاقا من إيمان سموه بالحوار كطريق لبناء الفهم والتفاهم بين الشعوب والأمم، وصولا إلى حل مشكلات البشرية أسس وترأس سموه العديد من المؤسسات والمنتديات التي عُنيت بالحوار على الصعيد العربي والإسلامي والإنساني، والتي قاد سموه من خلالها الكثير الكثير من الحوارات البناءة بين الثقافات والحضارات والأديان والمذاهب، وهي الحوارت التي مازلنا بالحاجة إلى المزيد منها في ظل ما نعيشه من إحتراب مذهبي وطائفي وعرقي لا خلاص منه إلا بالحوار والركون إلى كلمة سواء كما ينادي بذلك الصيد من آل هاشم بيت النبوة التي جاءت رحمة للعالمين.
إن مؤسسات الحوار التي أسسها وقادها وشارك في أنشطتها الحسن بن طلال، بمقدار ما ساهمت بالتأسيس للفهم المشترك والتفاهم بين أبناء الثقافات واتباع الأديان والمذاهب، فقد عززت من صورة سموه كقيادة فكرية عالمية تحظى بالقبول والاحترام عند كل المنصفين من أبناء الشعوب وقادة الدول، وهي المكانة التي عزز من حضورها أن العالم عرف بالحسن بن طلال رجل تنوير يمتلك رؤية استشراقية لمستقبل البشرية، التي يجب أن يحكمها الضمير الذي يحتل دوره مكانة خاصة في فكر سموه، الذي جمع في بناء شخصيته بين إحكام العقل واستشرافاته، وبيان أشواق الضمير وعدالته، تماما مثلما جمع سموه بين عمق النظرية ومتانة التطبيق، فماميز الحسن بن طلال أنه لم يتوقف في حياته كلها عند حدود التنظير، بل تجاوز النظرية إلى السعي لتطبيقها، من هنا ارتبط اسم سموه بالإنجاز ليس على صعيد بناء المؤسسات فقط، بل وعلى صعيد متابعة إنجاز هذه المؤسسات في الواقع المعاش للناس، عبر خطط التنمية التي أسند إليه الراحل العظيم الحسين طيب الله ثراه مهمة وضعها ومتابعة تنفيذها، وهو التنفيذ الذي دفع سموه إلى أن يجوب الوطن من أقصاه إلى أقصاه مثلما دفعه إلى أن يطوف العالم باحثا عن دعم وتمويل مشروعات التنمية ترعاه عين الحسين العظيم.
كثيرة هي الجوانب المكونة لشخصية الحسن بن طلال والتي لا يستوعبها كتاب، فحب سموه للعمل وهو الحب الذي حرره من عقدة المكاتب وقيود البروتكول لمتابعة التنفيذ على الأرض، يحتاج إلى الكثير الكثير من الصفحات، التي لا تقل عنها الصفحات التي يحتاجها الحديث عن إيمان سموه بالتخطيط وكراهيته للارتجال، وهذه سمة تؤكد أن سموه رجل عقل ومنطق، مثلما هو رجل مشاعر وعواطف يحترم الكبير ويعطف على الصغير، كدأب آل البيت والعترة الطاهرة التي ينتمي إليها هذا الأمير العربي الذي نحتفي بصدور كتاب عن بعض جوانب شخصيته، في غمرة احتفالاتنا بذكرى الاستقلال ومئوية الثورة الكبرى، التي فجرها أجداده الذين من سيرتهم استلهم كل هذا الاحساس بالتاريخ الذي هو أحد أهم مكونات شخصية سموه، مثلما استلهم حبه للقدس التي كتب عنها الكثير الكثير من ذلك كتابه القدس في الضمير، وهذا كله غيض من فيض حكاية هذا الأمير العربي الهاشمي.
الرأي