عرط لـــ حمد نزال
.. مشاكسة بارعة للمحرمات وضرب حائط بالتقسيمات الأدبية التقليدية
19-09-2010 02:00 PM
عمون - كتب أحمد خالد عجلوني - "نظرية الانفجار العظيم" تقول بأن هذا الكون المترامي الأطراف بدأ من نقطة مادية كرأس الدبوس، وهذا الإنسان الكائن المعقد ببنيته الجسدية والنفسية والذي يتحكم بمسار الأرض بدأ من نطفة لا ُترى بالعين المجردة، والنيران التي تلتهم الأخضر واليابس تبدأ من مستصغر الشرر. و"عرط"، أول غيث الكاتب الساخر حمد نزال في عوالم الطبع بدأ قويا واثقا من خطواته، أصله في الثقافة العامة الشاملة وأغصانه أحلاماً كبيرة أوسعُ من أربع جهات الأرض.
كاتب "عرط"، يتحكم بلغةً أدبية جامحة وقوية، متمكن من مفرداته، يملك مخزوناً من اللغة والمصطلحات الأدبية والانسانية المرهفة، بدأ بدايةً قويةً لكأنه راسخ من زمن بعيد في صوغ العبارات وترابطها، متمكنا من الغوص في الأساليب الأدبية قديمها وحديثها، ملماً بخبايا اللغة ومفرداتها. .. ولا عجب في ذلك إن علمنا أن بعض حكايا عرط، قد كتب قبل عقدين كاملين من الزمن. إنها لوحات مزركشة، صارعها مع روحه لسنوات طوال، وأخفاها عنا عشرين عاما كاملة، لتظهر معتقة بهية كما أروع النبيذ، وقديم الشجر...
سطور من الحكمة... قصص من عشرة كلمات... رواية من 15 صفحة.. شعر "ما وراء الحداثي"... وصناديق تلخص الدنيا بكلمات بسيطة... ثم... قصيدة للأطفال... وشعر مترجم... كلها .. في أقل من 140 صفحة بالقطع الصغير... بالعربية وبالإنجليزية أيضا!
إنه "عرط ثقافي" بكل ما تعنيه الكلمتان. عرط في الشامي تعني المبالغة والمباهاة والفجور في القول... وتعريف نزال للعرط يقع في الصفحة الأخيرة من الكتاب... "العرط جوهر النجاح في كل المجالات، وهو يضم أجزاء متشابكة من الحقيقة والكذب والمبالغة والغرور والطموح والخيال... من لم يعرط ذات يوم، فليرمني بالرصاص".!
ومن السطور القصيرة التي احتضنها عرط : "البن زيت الدماغ" انتهى... "ظل يخبئ قرشه الأبيض ليومه الأسود، لما استلقى على الفراش هرما، يومه الأسود لم يكن قد جاء بعد" ... "الأحلام انتباهات تعبة".. "عند باب العطار تلتقي الحكايا الحزينة"... "ظهر نبي جديد أمنت به كل البشر، لم تنته حروبهم ولا الخصومات" انتهى... "الشاعر رضيع الشمس، حرفته الضوء" أنتهى... "الشعر عدوى ترفض أن تزول" أنتهى..
ثم عالي الشعر الحديث:
"لا.
أحبك أيها القمر،
الكل يراك. جميل ومبتذل"
إنها، كلمات حمالة للأوجه وهذا أقل ما يقال فيها. وإن لم يكفي هذا لبث السحر فيك... تأتيك الكاسحة "كل شئ قيل":
ليس في الأمر جديد،
كل مــــا قلناه قــيل.
لم نزد شيئا بل، نعيد.
كل شيء ...
من فنون الحب أو مغازي الخلق..
في أصول الكون، أو سنين العمر،
في الشعر، في اللاهوت في كل العلوم..
في الليل والنهار..
في البدء في الختام..
كل شيء قيل.
كل ما سيقال قيل
لم نزد شيئا بل، نعيد.
أما "كبد الغوس"، الرواية الأقصر... فتحكي أربع قصص باختصار مريح. تنقلك في عالم متعدد الحضارات تسبر فيه أرواح وأحباب وأموات وتكنولوجيا وشخصيات غير اعتيادية يلعب فيها حمد نزال دور الشاهد والرواي الذي يفعل كل شيء سوى أن يدخل الملل إلى قلبك...
القصص المتنوعة في "عرط" تعبير واضح عن ثقافة واسعة متشعبة فحينا يتطرق الكاتب إلى علم الإجتماع وعلم النفس في معرض حديثه عن إستقلالية الفرد البشري ورفضه للنظريات السائدة في علم الاجتماع وإشاراته ضمنا إلى العلاّمة إبن خلدون صاحب "علم العمران" وتركيزه على "سبر أغوار النفس"، وكذلك مصطلح تاريخ الحياة، وأخذه أحياناً بالنظريات الحديثة في العلوم الإنسانية التي تقول بأن الأنسان ُيقنع (يضع قناعا) حياته الحقيقية بالوهم من خلال اللغة حيث يؤكد الكاتب أن الأنسان يضطر للتناقض مع نفسه ومع الآخرين لمجرد التبرير.. وإشاراته البارعة لأهمية الحلم الإنساني في استمرار الحياة. وفي "أوراق عربية"، يجول بك الكاتب في رحلة حالمة طريفة مبكية في عالم عربي يسوده عكس كل ما في أيدينا الآن معززا أهمية عدم التخلي عن رؤية ضوء نهاية النفق، مهما كانت غباشته.
وأحيانا يتطرق المؤلف إلى علم السياسة من خلال محاور الحريات وحقوق الانسان مستعملا النقد السياسي في ذلك. وقد عبر عن ذلك بشكل دقيق لا يضاهيه مبضع جراح محترف في إحدى قصص الكتاب في رسم موجز بديع للكبت والخنق والقيود السياسية التي تلجم مجتمعاتنا على كافة المستويات:
"عندما ألقى حرس الحدود القبض علينا، سألوا: كم دفعتم للمهربين حتى تصلوا إلى هذه النقطة؟ رد أحدنا: نصف عمرنا! التفت جندي أخر إلينا، وسأل مستغربا بحق السماء، لما تهربون من أوطانكم؟؟ رد أصغرنا: كي نتفس!"
) الفاتحة)
كما قام حمد نزال بإيضاح وفضح استغلال الدين لمآرب سياسية حين أوضح استعمال النظام السياسي العربي السور القرآنية لإخفاء حقيقتهم وإمعانا في إيهام الشعوب وعدم الحرج أمامها. وقد جاءت قصصه جريئة بشكل عز نظيره في الأدب العربي حيث قام بنقد المحرمات الثلاث (الدين + السياسة + الجنس) ، وكانت إشاراته صريحة وواضحة بل وضرورية. لكن براعته الحقيقية تكمن في قوله كل ما أراد دون أن يعطي لأحد مجالا لتجريمه ولأخذ كلمته إلى المحكمة... أنه كتاب محير للرقيب.. مثلما هو محير أيضا لمصنف الكتب في المكتبات.. فهو الشعر والقص والرواية والترجمة، لا بل والفلسفة أيضا.
"عرط"، لم يعتمد التقسيمات التقليدية للأشكال الأدبية من قصة ورواية وشعر حر وشعر موزون..، بل داخل ودمج بين هذه الأشكال على نحو جمالي يستساغ ولم يكن صاحب "عرط" على اقتناع بأن الإبداع له أطر محددة أو قيود لاجمة لحريته مانعة لحركته. فقد انتقل من القصة إلى الشعر الحر بشكل غير تقليدي ولم يشعر مهابة عن الأخذ بالشعر الأجنبي في تصويره الشعري وإنما أكد على وحدة الشعور الإنساني العميق وهذه تحسب للكاتب أيضا فهو يقتحم آفاقا غير مألوفة في البحث عن الإبداع غير المكبل بقيود الماضي و التراث أو العصرنة ومتطلباتها.
فضلاً عن ذلك لم يتورع الكاتب عن القيام بانتقاد نفسه وفضح بعض أخطاءه الشخصية، كما فعل ذلك بالنسبة لبعض أصدقائة وهذه جرأة تحسب له وتجديد في الأدب العربي وتعبير واضح عن قبوله بالرأي والرأي الآخر وكذلك اعترافه بالضعف البشري عامة.
وقد أكد ذلك في "كبد الغوس" التي ربما تصير أقصر روايات الأدب العربي والعالمي. نشير خصوصا إلى هذا الجزء من العمل الأدبي للكاتب لأنه غنيُ جدا بالجملة الأدبية + الإنسانية + السياسية + تمازج الحضارات... ويصلح بحق أن يكون رواية أدبية كونية بكل ما في الكلمة من معنى.
ولما كان لزاما أن نختم، فنختار من "عرط" أغنية كتبت للأطفال:
واز ياما واز
واز ياما واز
في زمن الألماز
ولد صغير في عندو غماز
بيساعد جدو أبو عكاز
ما بيغلب امه وما بيصب الغاز
وبحمل العجين لعند الخباز...
واز ياما واز في كتب الألماز
بنت صغيرة في عندها غماز
وشها حلو بينحط ببرواز...
طفلة صغيرة بتعشق الألغاز
وعلامات مدرستها كلها في الممتاز
وما بتنام إلا ع كرسي هزاز...
واز ياما واز
في جبل الألماز
في سفن الألماز
في تل الألماز....
إنتهى
إصدارات
عرط: حكايا عربية مهاجرة بنكهة شعرية مزركشة
صدر عن دار ترافيلينغ للنشر، وهي مؤسسة تونسية مستقلة غير ربحية كتاب بعنوان "عرط" للكاتب الساخر حمد نزال.
وعلى الرغم من صغر حجمه (140) صفحة من القطع الصغير، إلا أن الكتاب يضم بين دفتيه سطورا من الحكمة... قصصا من كلمات قليلة... رواية من 15 صفحة.. شعر "ما وراء الحداثي"... وصناديق تلخص الدنيا بكلمات بسيطة... ثم... قصيدة للأطفال... وشعر مترجم... بالعربية وبالإنجليزية أيضا!
إنه "عرط ثقافي". والعرط في اللهجات الشامية يعني المبالغة والمباهاة والفجور في القول... "العرط جوهر النجاح في كل المجالات، وهو يضم أجزاء متشابكة من الحقيقة والكذب والمبالغة والغرور والطموح والخيال... من لم يعرط ذات يوم، فليرمني بالرصاص"! يقول الكاتب.
ومن قصائد عرط: كل شيء قيل وملهى الطابق الأخير:
لا،
أحبك أيها القمر.
الكل يراك.
جميل، ومبتذل.
ومن السطور القصيرة التي احتضنها عرط: "البن زيت الدماغ" انتهى... "ظل يخبئ قرشه الأبيض ليومه الأسود، لما استلقى على الفراش هرما، يومه الأسود لم يكن قد جاء بعد" انتهى... "الأحلام انتباهات تعبة" انتهى.. "عند باب العطار تلتقي الحكايا الحزينة" أنتهى... "ظهر نبي جديد أمنت به كل البشر، لم تنته حروبهم ولا الخصومات" انتهى... "الشاعر رضيع الشمس، حرفته الضوء" أنتهى... "الشعر عدوى ترفض أن تزول" أنتهى.
وهذا هو الأصدار التاسع لدار ترافلينغ حديثة التأسيس والتي نشرت سلسلة من الحوارات الثقافية من أبرزها: هكذا تكلم واسيني الأعرج، وهكذا تحدث فيليب لوجون، وهكذا تحدث نصر حامد أبو زيد (لكمال الرياحي).